يقول ابن خلدون في "المقدمة" ما معناه أن البلدان المتعددة الطوائف والأعراق والقبائل صعب حكمها، ولا بد أنه كان يقلّب في ذهنه صفحات من التاريخ، حيث الأمويون والعباسيون واجهوا طوال فترتي حكمهم المتعاقبتين الكثير من الثورات والاضطرابات الداخلية، فالعراق وفارس بتشكيلتهما القبلية والدينية والمذهبية والعرقية المتنوعة ظلتا مصدرا لبروز حركات مناوئة رفعت السلاح ضد الدولة ولعبت دورا حاسما في تقويضها. ولعل الحال ينطبق على الاندلس الذي جمع بين دفتيه طوائف وأعراقا وقبائل كثيرة ذات خلفيات مختلفة ما بين يمانية وحجازية وأمازيغية، ومذاهب عديدة، ساهمت كلها في تفكك الدولة هناك وتحولها إلى دويلات متحاربة فيما بينها مما سهّل على القشتاليين، الذين يجمعهم مذهب واحد هو الكاثوليكية، مع وجود بناء هرمي مركزي للحكم السيطرة على آخر معقل للمسلمين في غرناطة عام 1492.
على العكس من هذا التشرذم الذي شهدته أجزاء عديدة من بلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي، نجد أن مصر أعطت مثالا على سهولة إدارتها فالأغلبية من أبنائها تحولوا إلى الإسلام بعد الفتح العربي- الإسلامي لها خلال أواخر القرن السابع الميلادي، ومع مرور عقود على ذلك الفتح تحول الفاتحون حالهم حال من سبقهم إلى مصريين، إذ سبق أن حكم مصر الرومان والإغريق والهكسوس لكنهم في نهاية المطاف ذابوا داخل هذه البوتقة السكانية المتجانسة التي أساسها الأسرة وليس العشيرة ذات الأصول الرعوية، وهذا المجتمع عاش آلاف السنين تحت دولة مركزية ذات بناء هرمي جلس على قمتها سلالات من الفراعنة، وبفضل ترسخ مبدأ اتباع القاعدة لمن يرأسها، من أسفل السلم إلى قمته، تمكن المصريون القدامى من تحويل هذه المناطق المملوءة بالمستنقعات والأحراش إلى أرض صالحة للزراعة ثم إلى بروز المدن القديمة فيها، وما رافقها من إنجازات حضارية كبرى.
في كل المجتمعات المعاصرة التي نجحت في تحقيق طفرات مذهلة نتلمس أن الفضل يعود بالدرجة الأولى إلى وجود دولة مركزية تخضع إلى بناء هرمي في إصدار الأوامر من الأعلى الى الأسفل، وتنفيذها على أرض الواقع من دون معارضة، وبالطبع كلما كان رأس الهرم أكثر كفاءة كان الإنجاز أكثر كفاءة.
بل حتى مجتمعات الغرب الديمقراطية، بما فيها الولايات المتحدة، الرئيس المنتخب يعطى صلاحية مطلقة في اختيار وزرائه وتحديد ما يجب فعله طالما كانت له أغلبية برلمانية، فهو بشكل ما حاكم مستبد تماما لكنه محدود بفترة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات، تعقبها انتخابات قد تنتهي بقدوم مستبد (ديمقراطي) آخر من حزب معارض.
بل حتى ممثلو المعارضة الذين يتقاضون رواتب على عملهم حالهم حال من هم في الحكم، ملزمون باتباع قوانين تفرض عليهم تجنب إثارة الفوضى والتمرد والعصيان في عمل مؤسسات الدولة المتعددة.
كأن قيام الممالك والامبراطوريات القديمة في بنيتها الهرمية ومركزية قراراتها التي تنفذها الأطراف المعنية داخل المجتمع، يشبه كثيرا عمل الدماغ في الكثير من الكائنات الحية وخصوصا الثدييات، فنحن نرى أن كل الأوامر تصدر من الدماغ الذي يشبه في وحداته الحكومات الحالية المنقسمة إلى وزارات متخصصة بوظائف مختلفة، وما على أعضاء الجسم الحي الأخرى إلا تنفيذ الأوامر مباشرة. بالطبع حين يحدث خلل في جزء من هذا الدماغ فإنه ينعكس على الجسم الحي ككل.
على العكس من وجود دماغ واحد، لكل جسد حي، نجد في النظام القائم على المحاصصة الطائفية اليوم في لبنان، وجود عدة أدمغة، وكل منها لديه بناء هرمي يمثل الطائفة التي ينتمي إليها هذا الدماغ. إذن نحن نواجه في الجسم الحي الواحد، عددا من الأنظمة المركزية المتوازية والمتقاطعة في ما بينها، لتسيير جسم واحد هو الكيان اللبناني بمؤسساته المتعددة. كأننا نواجه كيانا هو معاكس للاخطبوط: فبدلا من وجود دماغ واحد وعدة أذرع، هناك عدة أدمغة وذراع واحدة هي الحكومة نفسها.
بوجود هذه الأنظمة المركزية المتعددة على أرض الواقع يجري تحييد وشل العديد من القوانين والقرارات التي يصدرها البرلمان بناء على اقتراح الحكومة، لكن حال هبوطها الى قواعد المجتمع المدني تتفرق هذه القرارات، ويجري تنفيذها بشكل جزئي أو لا تنفذ، فغياب نظام المحاسبة المركزي المتخارج فعلا عن الطوائف يجعل كل شيء مقبولا طالما أن السلم الأهلي بين الطوائف المكونة للمجتمع يظل قائما.
لعل الانفجار المروع الأخير في ميناء بيروت يشبه انفجار النظام ذي الأدمغة المتعددة التي تتقاطع قراراتها وأوامرها مع بعضها البعض، فتجعل جميع المسؤولين محميين كلا حسب طائفته، في نهاية المطاف، وأي قرار يتخذه فلان المنتمي إلى هذه الطائفة يشله علان المنتمي إلى طائفة أخرى.
وإذا كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي يحكمها النظام العسكري (الذي ابتكره الرومان وما زال قائما حتى يومنا الحالي في العالم أجمع) حيث الفرد فيه ملزم بتنفيذ الأوامر التي تأتي ممن هو أعلى مرتبة منه، وخضوع من هو تحت مرتبته له لأوامره، لكن وظائف هذه المؤسسة لا تمت بصلة للنشاطات المدنية ولم يصبح النظام السائد فيها أساسا يقوم عليه عمل المؤسسات الحكومية الأخرى.
من النتائج الأخرى التي تطفو على السطح لنظام المحاصصة الطائفية في لبنان استشراء الفساد وهذا لا يعد إلا تحصيل حاصل، بغياب جهاز للمحاسبة ووجود تعددية في الأنظمة الهرمية المركزية.
لعل انقسام مجتمع ما إلى طوائف بالشكل الحاد القائم في لبنان، حيث تتوزع الطوائف، بشكل عام، على أرضه جغرافيا، يناسبه نظام كونفدرالي، لكن صغر مساحته، والتداخل الكبير في الأنشطة الاقتصادية والتجارية والثقافية سيجعل من نظام كهذا عبارة عن شبكة متاريس تخنق الجميع، وتشل إمكانية العيش والازدهار فيه.
قد يكون ضروريا الإشارة إلى أن الطبيعة السمحة التي يتمتع بها اللبنانيون بشكل عام، بفضل انعدام الجذور البدوية والقبلية في مجتمعهم، وتجذر العمل الزراعي لأجيال عديدة، والحاجة المتبادلة بين أبناء الطوائف إلى بعضهم البعض، إضافة إلى قدم التعليم فيه، فلبنان لعب دورا مهما في تشكل الهوية الثقافية العربية بعد قرون من الاستبداد والتهميش العثمانيين.
لذلك تأتي حركة الاحتجاجات والتظاهرات التي انطلقت قبل أكثر من ستة أشهر، على الفساد المستشري الذي تسبب في هدر ثروات البلاد وأموالها، وتدهور شروط العيش الأولية لقطاعات واسعة من المجتمع، أمرا طبيعيا.
مع ذلك، تبدو هذه الحركة ميالة إلى انتقاد الأفراد المسؤولين عن الأضرار التي لحقت بقطاعات واسعة من الأفراد بغض النظر عن خلفيته الطائفية، وهذا يشكّل قصورا في تشخيص جذر المشاكل العضوية في لبنان. إنه نظام المحاصصة الطائفية الذي التزم به بعد الحرب العالمية الثانية، منذ استقلال لبنان من فرنسا.
كذلك لم نر بروز حركة سياسية جماهيرية متجاوزة للطوائف تستطيع أن تطرح برنامجا وطنيا للانتخابات القادمة، ما يمكنها من تخطي نظام المحاصصة الطائفية بسلام وإقامة دولة ديمقراطية ذات بناء هرمي، يتم فيها صياغة القرارات مركزيا، ثم يعقبه تطبيقها من قبل المؤسسات الحكومية المعنية بشكل فعال.
البقاء في دائرة التذمر والانتقادات الموجهة ضد المسؤولين الحكوميين لا يدفع إلا إلى مزيد من شلل عمل الحكومة القائم حاليا على أساس المحاصصة الطائفية، وبغياب طرح البديل، سيؤول في نهاية المطاف عند إجراء الانتخابات البرلمانية إلى عودة الجزء الأكبر من المنخرطين في حركة الاحتجاجات الحالية إلى جيوب طوائفهم المتعددة وإعادة انتخاب ممثليهم على أساس طائفي، وبالتالي إعادة إنتاج الفساد المؤسساتي.
*روائي ومترجم عراقي مقيم في لندن
التعليقات