اشيعوا الديمقراطية و الشفافية، وستجدون عراقاً قوياً مستقلاً:
بالضبط قبل اسبوع من اصابته بفيروس كورونا اللعين،التقيت بالأمين العام السابق للشيوعي العراقي بهاءالدين نوري المعروف بـ (ابو سلام أو باسم )(1 ). وخلال اللقاء تحدثنا عن امور كثيرة وبشكل خاص عن الوضع السياسي والاقتصادي المزري في العراق وإقليم كوردستان.
ومن الجدير بالذكر,ان ابو سلام كان يعد بمثابة “الصندوق الأسود” إن صح التعبير للشيوعي العراقي, إضافة إلى ذالك كان يتمتع بذاكرة غيرعادية, حيث فتح لي خزائن أسراره وذكرياته مع والدي في سجن نقرة السلمان وثم في قرية (ده ركله التابعة لقضاء رواندوز) عام 1966، تلك القرية التي عشتُ فيها جزءا من طفولتي.
بعد ذالك استمعت إلى ارائه وتوجيهاته القيمة حول العمل من اجل تحسين مستوى معيشة الشعب وكيفية تفعيل دورقوى اليساروالديمقراطية وخوض الانتخابات القادمة في العراق والإقليم.
وعلى الرغم من مرضه إلا انه كان يتحدث بنفس الاصرار وروح التحدي والدفاع عن تلك المباديء التي حلم بتحقيقها منذ أن كان شاباً يافعاً وهو يقود الشيوعي العراقي بعد اعدام مؤسس الحزب الشهيد يوسف سلمان يوسف فهد ورفاقه الاماجد صارم وحازم.
تحدث ابو سلام بالتفصيل عن المشاكل والصراعات الدموية بين الشيوعي العراقي والاتحاد الوطني الكوردستاني في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وعن ودوره في انقاذ القيادي في الاتحادالوطني ملابختيار من الموت بعد ان اُعتقل من قبل قيادة حزبه بسبب تشكيل تنظيم أطلق عليه إسم (آلاي شورش راية الثورة).
كما تحدثنا عن اهمية و ضرورة وجود المعارضة الحقّة في إقليم كوردستان.
ولما سألته عن اساليب التغييروكيفية الاستفادة من تجربة الدول في المقاومة المدنية السلمية،ردّ عليه بنبرة واثقة وبهدوئه المعتاد :
(من اجل تغيير نوعي يضع العراق على طريق سنغافورة،أقترح على كافة رجال الثقافة و الادب والفن و الصحافة من اساتذه الجامعات و طلبتها و جميع المعنيين بالشؤون العامة لتأسيس ( حركة الاصلاح الديمقراطي ). بشرط ان تكون هذه الحركة مستقلة و تتبنى المقاومة المدنية والسلمية بهدف الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع ولكي تقدم نموذجا يقتدى به ليس في العراق فقط وانما في الشرق الاوسط ايضا ).
واضاف : (أما عن كيفية تأسيس حركة الاصلاح الديمقراطي، يجب ان يبدأ بمبادرات ذاتية محلية، كل في مدينته أوقريته اومنطقته، ويتداول الجميع عبر النشر الالكتروني، ويعلنون تشكيل نواة الحركة في مدينتهم أو محلتهم أو قريتهم او مكان اقامتهم. ويمكن للكروبات و التنظيمات ان تنضم اليها شريطة الالتزام ببرنامجها الذي سيصادق عليه في مؤتمرها.
وفي الاخير لخص العلاج الأساسي لمشكلة العراق في جملة واحدة وقال : دعني الخص لك العلاج الأساسي في جملة واحدة واقول لكل من يهمه امرالعراق : اشيعوا الديمقراطية و الشفافية، وستجدون عراقاً قوياً مستقلاً ).
وحتى وهو خارج تنظيمات الشيوعي العراقي،إلا انه كان يقول ويكر دَائِماً بانه مدين للشيوعي العراقي في تربيته بروح أممية راسخة لم ولن تزحزحها العواصف الفكرية، والسياسية العاتية من طغيان العواطف القومية.
كما لم ينكر ابو سلام مسؤوليته كقيادي عن الاخطاء والتراجعات في مراحل حياة ونضال الشيوعي العراقي وخلال وجوده كقيادي في الحزب.
قام ابو سلام بقياد مئات الإضرابات والمظاهرات العمالية والطلابية والجماهيرية في بغداد وسائر المدن العراقية بعد تسلمه قيادة الحزب، والاغرب من كل هذا،لم يكن يتقن اللغة العربية عندما اصبحت سكرتيراً للشيوعي العراقي وهو في مقتبل العمر.
ساهم ابو سلام بشكل فعال في بناء الشيوعي العراقي والحفاظ عليه بعد اعدام مؤسس الحزب الشيوعي الشهيد يوسف سلمان يوسف فهد ورفاقه الامجاد صارم وحازم في عام 1949.
وعن تلك الايام المُثخنة بالجراح قال ابو سلام : ( كان عمري 22 عاماً عندما استلمت قيادة الشيوعي العراقي، كان الحزب مثخن بالجراح بسبب اعدام مؤسسه, كان مطارد أعنف ما تكون المطاردة، ونجحت الشرطة في سحق تنظيماته والقبض على مركزه القيادي السري خمسة مرات متتالية في أقل من سنة وسط انهيارات بعض كوادره الذين لم يصمدوا تحت التعذيب الوحشي. ترى، ماذا أستطيع عمله وسط كل هذه الصعوبات وبجيوب خاوية لا تدخل إليها سوى دريهمات من اشتراكات أعضائه وتبرعات أصدقائه؟ )
وفي الاخير تحدث الراحل عن فيروس كورنا وقال لي نصاً :
(كنت أقدس الحزب والواجبات الحزبية وأحرص على سلامته ومصلحته كحرصي على حدقة العين.لقد نجوت مرات عديدة بأعجوبة من موت محقق, ولم تستيطع الحكومات العراقية المتعاقبة رغم جبروتها وقوة بطشها، فإنها لم تستطع منعي من الحركة كما فعل بي فيروس كورونا المستجدّ, هذا العدو غير المرئي الذي فرض عليه الإقامة الانفرادية الجبرية، لانني اعرف جيدًا لو اصابني هذا الملعون، لا انجو منه بسبب العمر والمشاكل الصحية التي اعاني منها ).
أخيرًا اقول :
مع سماع خبر رحيل هذا القائد والمناضل المخضرم،انهالت عليّ الذكريات بشجونها وبحلوها ومرّها, حيث ربطتنا علاقات الرفقة الطويلة والصادقة والتي امتدت لعقود من الزمن وفي احلكِ الظّروف السياسية وأقساها, فكان في فترة من فترات النضال السري مختفيا في بيتنا, وثم عشنا معه ومع رفاقه الاخرين في قرية (ده ركله ) وبسبب هذه العلاقة الحميمية كنا نسميه ( مام اي العم ).
تحية للعم ابو سلام الذي بقى إلى اخر لحظة من حياته منحازاً للمقهورين والمتألمين والمظلومين والكادحين أينما كانوا, و لم يتورط يوما بالفساد و لم يترك بعد رحيله ثروة طائلة أوارصدة سرية في تركيا ولا مشاريع واستثمارات وهمية، ولا قصوراً في المانيا، ولم يعالج في مستشفيات سويسرا الفاخرة، ولم يحتل تلة اومنتجع اسوة بعفاريت الإقليم.
نعم.. رحل الامين العام السابق للشيوعي العراقي يوم امس بهدوءٍ وتواضعٍ كما عاش دائماً وترك لنا رسالة تبعث الأمل فى نفوسنا جميعآ و تبشّر بالنصرأو النصر.
ـــــــــــــ
1 اصدر بهاءالدين نوري اثناء فترة قيادته ميثاق (برنامج) جديد للشيوعي العراقي في ربيع 1952، والذي صار يعرف باسم ميثاق "باسم"، نسبة إلى اسمه الحزبي انذاك وكان البرنامج الجديد يدعو الى معالجات جذرية لمجمل المسائل والمشاكل القائمة آنذاك,فجّر الميثاق خلافا فكريا داخل الحزب، مما ادى الى انشقاق مجموعة من كوادرقيادية واعضاء الحزب واسسوا "منظمة راية الشغيلة"، وبعد وصول سلام عادل لقيادة الحزب،اتصل بجمال الحيدري الذي كان يقود المنظمة بعد هروبه من السجن، وطلب منه ضرورة وضع حد للاتجاه الانشقاقي وإيقاف السجال بين الطرفين وأيد هذا المسعى خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري، ثم حصل الاندماج في صفوف الحزب وتوحيده من جديد في عام 1956.
2 ولد الشيوعي المخضرم بهاء الدين نوري عام 1927 في قرية (تكيه ), وهي قرية تابعة للسليمانية من أسرة متدينة حيث كان والده شيخاً في أحد الجوامع. انتسب إلى الحزب الشيوعي العراقي أواخر العام 1945. اصبح ابو سلام سكرتيراً للحزب الشيوعي العراقي بين عامي 1949 و1953. ساهم بشكل فعال في بناء الشيوعي العراقي والحفاظ عليه بعد اعدام مؤسس الحزب الشيوعي الشهيد يوسف سلمان يوسف فهد ورفاقه الامجاد صارم وحازم. شكل اتحاد الشبيبة الديمقراطي في خريف عام 1950 وأعاد تشكيل اتحاد طلبة في نفس السنة،وفي عام 1952 شكل رابطة المرأة العراقية بقيادة الراحلة د.نزيهة الدليمي. اُعتقل من قبل النظام الملكي عام 1953، أطلق سراحه إثر ثورة 14 تموز 1958.
بعد انفضاض التحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي (1973 – 1979)، أصبح بهاء الدين نوري قائداً للتنظيم العسكري للحزب في إقليم كوردستان، وبقي ضمن قيادة الحزب قرابة 40 عاما، ثم هجره بسبب خلافاته مع القيادة ولكنه لم يهجر معسكر اليسار.
كان الراحل كاتبا مرموقا ويكتب باللغتين العربية والكوردية واستمر في الكتابة حتى اخر يوم من حياته.له مؤلفات عديدة منها روايته الشهيرة (قرية في سفح جبل)،اضافة إلى مئات المقالات والدراسات والأبحاث السياسية والفكرية. في عام 2018 رفضت وزارة الثقافة في إقليم كوردستان طبع مذكرات بهاء الدين نوري وكرر طلبه لجهات أخرى في السليمانية ورفض طلبه مرة اخرى بحجج واهية. حُرم ابو سلام من المشاركة في الانتخابات العراقية الاخيرة اسوة بمئات العراقيين من كبار السن، بسبب آلية التصويت التي تعتمد على البصمة، والتي من خلالها يصعب إخراج بصمة كبار السن، ما اضطر أغلب كبار السن الى العودة من دون الادلاء بأصواتهم. مما ساعدت هذه المشكلة في عمليات التزوير لصالح شخصيات وأحزاب معينة.
توفي ابو سلام يوم الثلاثاء المصادف 1 / 12 / 2020 جراء مضاعفات إصابته بفيروس كورونا عن عمر ناهز 93 عاماً، وقد ورى الثرى بمقبرة قريته ( تكيه ) ﺤﺴﺏ ﻭﺼﻴﺘﻪ.