منذ قرن ونصف، لكي لا نمضي أبعد، والأكراد ضحيّة قياداتهم. حروب قبلية وتحالفات فاشلة مع العثمانيين أو القاجاريين، وكان الدّم الكردي يسيل فيها بين سوران وبهدنان؛ إمارات شهرزور و راوندوز وأل بابان دفع الفقراء الأكراد ثمنها باهظاً؛ وواقعة "كوربات 1838" التي قادها محمد باشا الرّاوندوزي كلّفت ثلاثة آلاف ضحيّة كردية في ثلاثة أيام فقط!
حروب أهلية، في حقبتها، تشابه ما كانَ يحدث في أطراف الجزيرة ونجد، مذابح أخوية من نمطِ داحس والغبراء التي أرخت لأيام العرب في الجاهلية. لم يشذّ عن ذلك إلا عبد السّلام البرزاني الذي كانت ثورته كدساً من اصلاحات اجتماعية، حداثية، رفعت من شأن القضية الكردية وجعلتها قضية تحرّر اجتماعي لعموم الأكراد وفي العراق خصوصاً، لكنّ ورثة عبد السّلام البرزاني الذي شُنق عشيّة الحرب الأولى لم يأخذوا بوصيته، فعادت كردستان بعده الى سيرتها الأولى في التّخلف القبلي/ الاقطاعي وذهب دم هذا البرزاني الأصيل هدراً، فأنتفاضة الأخ الأصغر الملا مصطفى في الأربعينات فشلت فشلاً ذريعاً وانتهت بهزيمة، هرب فيها قائد الأنتفاضة وبعض من رجاله إلى الأتحاد السوفيتي، تاركين القضية خلفهم لعقود من النّسيان.

في أعقاب ثورة تموز 1958، عاد الملا مصطفى إلى العراق بدعوة من قائد الثورة معززاً واستقرّ في بغداد بعد أنْ رفعت الثورة شعار الأخوة العربية الكردية في وطن واحد، ولكن بعد عامين ولأسباب تبدو اليوم، بعد مرور ستين عاماً، واضحة، رفع البرزاني السّلاح من جديد متمرداً على الثورة التي كانت في أوّل عهدها.

لم تكن، حينذاك، خفيّة التّحالفات بين البرزاني وشاه ايران وشركات النفط البريطانية ضد ثورة تموز التي حرّرت العراق من المَلكية والأقطاع وتتهيأ لقطع دابر شركات النفط البريطانية. امتدّت التّحالفات، بعد تلك الحقبة، لتصل تل ابيب بأعتراف قادة الأنتفاضة أنفسهم.
هكذا، ومنذ البدء، حرّف الاقطاع الكردي مسار الأنتفاضة الكردية وقدرها، وجعلها أداة لغير هدف تحرّري اجتماعي، بل لمصالح شاه ايران وتكتيك اسرائيل، لتنتهي بعد عقد ونصف في انهيار كبير في آذار 1975؛ يهرب البارزاني من جديد ولكن هذه المرة ليس لكرم الرّفيق ستالين، بل إلى شاهنشاه ايران، بلا مجد الثوار وبفداحة بؤس المنهزمين بعدما أعطى أوامره بترك السّلاح والاستسلام. مات الملا مصطفى وحيدا في منفاه الأمريكي بعد أنْ هزمه هزيمة أخيرة مرض السّرطان بعيداً عن ذرى جبال كردستان.

يومها حينما نزلت القيادة الكردية من" الجبل الأشم " مستسلمة للقوّات الحكومية، أمام الكاميرات، يتقدمهم المناضل صالح اليوسفي، لم يفجع الأكراد وحدهم بل فجع جميع مَن وقفوا مع الأكراد في نضالهم من أجل المساواة والتّحرر في بلد واحد قبل تقرير المصير. منذ ذلك العام صارت القضية الكردية كرّاً تارة، وفرّاً تارة أُخرى، تفرض دول الجوار مصالحها بين ايران وسوريا وتركيا. ومذاك صارت داحس والغبراء الكردية تقليداً محلياً، حيث يلجأ الطّالباني إلى إيران حين يضيق الخناق عليه، بينما يلجأ الوريث مسعود إلى صدام حين يضيق الخناق عليه. لعبة سمجة لاعلاقة لها بالكرد وتضحياتهم. وبدل التّحرر الأجتماعي والأقتصادي والسّياسي، ثمة سُعار قبلي وشوفيني، مناطقي، تقاسم للنفوذ، تقاسم للواردات، تجذير للكراهية المتبادلة بين الحزبين. جدار حديدي بين السليمانية وأربيل وحرب باردة. حروب اعلامية وكشف للمستور.. هذا إنْ بقي مستور في ظلّ العولمة؟ والشّعب الكردي وحده يقاوم مِن أجلِ العيش.

كردستان على حالها منذ أنْ سلّمها صدام في العام 1991 ليتخلّص من اعباء اضافية. لم يتغيّر شيء لا في زراعتها ولا في صناعتها ولا في نظامها الصّحي ولا حتى في نظامها التعليمي ولا في ادارتها كأقطاع موروث ابنا عن أب.

لم يتغيّر شيء على الجبال إلا عدد الأثرياء والمليارديرية في الطّبقة الحاكمة وأجهزة القمع "الأسايش" التي أصبحت بتعبير السوريين "شبيحة" النظام الفدرالي في كردستان. أسايش غرب وأسايش شرق، كلٌّ يترصّد الآخر وبينهما الأكراد كأدوات تجريب للقوة.
ما يدور اليوم في كردستان العراق هو الحصيلة الأوّلية لنظام يحمل بذور فنائه منذ زمن طويل. اقطاع متخلّف ببدلة رأسمالية رثّة لن يستطيع أنْ يفي بشؤون قرية. إذا كان وسط وجنوب العراق رثّاً بسبب الفساد المستشري منذ سبعة عشر عاماً، فإنّ كردستان فيه نظام أكثرُ رثاثة رغم أنّه سبق بقية أجزاء العراق بالتّحرّر من الصّدامية بإثني عشر عاماً، لكنّها في عمقها ظلّت تقلّد ذلك النّظام بكلّ أخطائه الفادحة: ثراء للحكّام وقمع للمحكومين، فأصبحت جمهورية أسايش وليست فدرالية كردية في العراق.

كتب شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري يوما في قصيدته " يوم السلام " في حب كردستان
لعبت به سود الليالي حقبة هي شر ما لعبت يد الأحقاب
وها هي سود الليالي تلعب بكردستان من جديد.
حتام يعيش الأكراد ضحايا لسود قياداتهم؟