يحتفل العرب في 18 ديسمبر (كانون الأول) من كل عام باليوم العالمي للغة العربية؛ وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً في العالم، ما يدعونا للتعريف بجمالياتها ومدى ثرائها وتفردها، كما وصفها أمير الشعراء أحمد شوقي:

إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا
جعل الجمال وسره في الضاد

فاللغة كائن حي ينمو ويتطور بتطور المجتمعات. وإذا كانت هذه تمر بحالة من الجمود، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا على أفرادها ومكونات شخصياتهم وفي مقدمها اللغة التي يتحدثون بها ويعبرون عن أفكارهم وتعاملاتهم، فهي مستودع شعوري ووعاء فكري لثقافة كل مجتمع. هكذا كلما ارتقت ثقافة مجتمع نهضت لغته حسب زكي نجيب محمود الذي رأى أنه "من اللغة تبدأ ثورة التجديد حيث اللغة هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها أو جمودها في بعض الحالات".

يميل بعض الشباب للتعبير عن ذواتهم وأفكارهم بالإنكليزية لا العربية لأنهم يرون فيها لغة العلوم والمعرفة والتجارة والاقتصاد، فيمتنعون عن استخدام لغتهم الأم لاعتقادهم بأنها لا تلبي طموحاتهم المهنية. وقد أصبحت الإنكليزية لغة الدراسة والمعاملات الرسمية والخاصة في أغلب مؤسساتنا، فانتشارها أصبح واقعاً ملموساً ويحظى من يتقنها بالأفضلية في الجامعات والمؤسسات وسوق العمل.


أطلقت بلدية جدة، بالشراكة مع جمعية عيون جدة الخيرية (OJCA)، مبادرة لتثبيت 50 لوحة جدارية بالخط العربي في جميع أنحاء المدينة، بما في ذلك بعض الجسور الرئيسية.


اللغة والترجمة
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مسؤولية تطوير مناهج اللغة العربية وأساليب تدريسها وتحديثها تقع على عاتق مؤسساتنا التعليمية التي ينبغي بها تقديم الدعم للغة الضاد كي تواكب التطورات الجديدة في عصرنا، وحتى يستطيع الطالب استخدامها بسهولة ويسر ولا ينفر من تعقيداتها. فلا شك أن صلة الطالب العربي بلغته ستضعف إن لم يتعلم لغته الأم ويتقنها قراءة وكتابة ويستخدمها استخداماً صحيحاً.

وتتحمل مجامع اللغة العربية لدينا أيضا الدور الأكبر في تعريب المفردات الأجنبية التي تقتحم حياتنا اليومية وإشراك المعلمين في هذا المهمة لاستخدام بدائل موحدة لهذه العبارات.

على صعيد متصل، إن هذه المجامع هي مراكز علم واشعاع حضاري، قدمت وتقدم مساهمة هامة في حركة والترجمة والتعريب التي تؤدي إلى جسر الهوة بين شعوب العالم في التواصل وتوثيق العلاقات بين الشباب، ما يتطلب من هذه المؤسسات التوسع في عملية النقل من اللغات الأخرى إلى العربية في مجالات الفكر والفلسفة والتاريخ والعلوم الأخرى. إلا أن المتتبع لنشاطاتها سيجد تراجعاً في عملتي التعريب والترجمة.

يُشار إلى أنه كان لمدارس العربية، كمعهد "بيت الحكمة" في بغداد في العصر العباسي، تجربة رائدة في ترجمة علوم اللغات الأخرى، والانفتاح الثقافي مما ساهم في تشييد صرح ثقافة عربية وإسلامية عالمية جعلت من بغداد وغيرها من المدن حواضر يقصدها الباحثون عن المعرفة والثقافة لينهلوا من معينها الزاخر. ولقد كان هذا الدور من أهم أسباب تقدم العرب والمسلمين وتطورهم؛ إذ أدت حركة الترجمة إلى الانتقال بهم من دراسة العلوم إلى الإبداع وإغناء ثقافتهم اللغوية وبناء الحصيلة الفكرية التي استقوها من علوم الآخرين؛ فاللغة كما قال العلامة عبد الله العلايلي" مظهر من مظاهر الإبتكار في الأمة".

أما واقع الترجمة في مجتمعاتنا فيعاني من فقر حاد مقارنة بمجتمعات الدول الأخرى، وتؤكد ذلك دراسة إحصائية أعدها فريق من الباحثين، بتكليف من "اتحاد المترجمين العرب"، توصل إلى أن عدد الكتب المترجمة العربية في دور النشر ومراكز الترجمة العاملة في بيروت، خلال الفترة ما بين 2000 و2009، لم يتعد الثلاثة آلاف خلال عشر سنوات، في حين تترجم إسبانيا، على سبيل المثال، عشرة آلاف كتاب في السنة الواحدة وللقارئ أن يتصور حجم المعارف التي فاتنا ترجمتها.


المبادرة التي انطلقت في جدة بالتزامن مع يوم اللغة العربية للأمم المتحدة، تهدف إلى إضفاء لمسة جمالية على المدينة من خلال اللوحات الجدارية والخط العربي.


الجمود الفكري
لقد كانت العربية لغة العلم والحضارة والفكر في العصور الوسطى حين تبوأت مكانة تشبه إلى حد بعد تلك التي تحتلها الإنكليزية حالياً، لأنها كانت مصدراً تترجم منها العلوم والمعارف إلى لغات الشعوب الأخرى. معروف أن أوروبا استغرقت قرنين من الزمان في نقل العلوم العربية من خلال حركة الترجمة الواسعة إلى لغاتها. ولكن واقع الثقافة العربية الآن يدل أنها قد دخلت في سبات عميق انعكس على لغتنا من حيث إنتاج الأفكار الإبداعية الجديدة، ما أدى إلى جمودها وعدم تطورها وبالتالي أصبح الكثير من مفرداتها لا يناسب واقعنا المعاش.

واتفق هنا مع الشاعر والأديب فاروق شوشة الذي قال "إن لغتنا ظلت عبر القرون الطويلة بفضل انفتاحها المستمر على الحضارات والثقافات واتجاهها الدائم للمستقبل، وإنها كانت تفقد جدتها وحيويتها ونبضها عندما يتوقف انفتاح أصحابها على الجديد الذي تزخر به حياتهم، وينغلقون على أنفسهم مضغًا واجتراراً".

في هذا السياق، اثمرت جهود بعض الدول كالإمارات العربية في تعزيز مكانة لغة الضاد والحفاظ عليها؛ وذلك من خلال إطلاق مبادرة "ميثاق اللغة العربية " بهدف تعزيز حضور اللغة العربية في المجالات الحياتية كافة، لتكون قادرة على التطور ومواكبة موجات التحديث والتطورات العالمية. وفرضت الإمارات استخدام العربية في تقديم المعلومات عن المنتجات الاستهلاكية ومواقع النشاط التجاري فيها وإصدار فواتير البيع بها إلى جانب الإنكليزية.

تأسيساً على ذلك كله، أقول إن قوة أي لغة تتصل مباشرة بقوة مجتمعها ثقافياً وحضارياً. وبما أن مجتمعاتنا ما زالت في مرحلة ما قبل الإنتاج الصناعي و المراهقة الفكرية، فإن ذلك ينعكس على لغتنا العربية وينّفر شبابنا منها.

واللغة تعد اليوم من أدوات القوة الناعمة للدول والشعوب الفاعلة ، وقدرتها على الـتأثير مستمدة من حضور أهلها على خارطة الفعل الحضاري المنتج. وكما قال ابن حزم " فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيّد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم" .

وختاماً أقول لشبابنا: أنتم تتحملون أيضاً جزءاً من مهمة تطوير لغتكم بصفتكم الفاعلين الرئيسيين في حاضر مجتمعاتكم ومستقبلها، وذلك من خلال ريادتكم في عالم الإبداع و الابتكار التي ستسهم في ترويج العربية باعتبارها لغة العلم القادر على تجاوز الخصوصية المحلية ليطرق أبواب العالمية.