يريد الجميع نصراً مؤزراً في سورية، وكأننا مازلنا في العصور القديمة أي ما قبل "حروب الجيل الأول". وفي الحقيقة لم يعد هنالك انتصارات من هذا القبيل، خاصة في الحروب الأهلية، فكل انتصار نسبيٌّ ومثله كلّ هزيمة، و"المجموع الصفري" إذا جاز لنا أن نستعير التعبير من "نظرية الألعاب" في التحليل الرياضي، هو أبعد الاحتمالات فقد تكون كلّ الأطراف خاسرة في وقت واحد، وربما تربح كلها إذا ما توخت الصواب في اتخاذ قراراتها.

والسؤال الذي لطالما شغلني البحث عن إجابته هو: كيف تكون كلّ الأطراف، رابحة عن جدارة في سورية؟

لم يبق سوى أيام على بداية السنة الجديدة، وفيها ستدخل الحرب في سورية عامها العاشر، عشرة أعوام من الصراع والاقتتال والخسائر والضحايا والمشردين، عشرة أعوام من التعنت والتصلب على المواقف، عشرة أعوام من الفوضى والعبث والاغتراب والعدمية....

لا أريد أن أدخل في لعبة توجيه اللوم، فكل الأطراف ربما أخطأت بشكل أو بآخر، وارتكبت ما ندمت عليه في مرحلة ما من مراحل الحرب، والإقرار بالخطأ بهذا المعنى هو الخطوة الأولى على طريق الحل، للانطلاق فعلاً والعمل على ما يمكنه حقاً مساعدة سورية والسوريين.

يرى كثيرون اليوم أن الملف السوري قد فقد ميزته الاستراتيجية التي كان يحظى بها، ولم يعد يشكل أولوية على جدول أعمال الدول ذات الصلة، وفي مقدمهم الولايات المتحدة وروسيا، نتيجة انشغالهم بجائحة فيروس كورونا وما أنتجته من تراجع حاد في الاقتصاد العالمي وفي أسواق الطاقة، ناهيك عن الأزمة الصحية التي لم تستثن دولة صغيرة كانت أم كبيرة.

لكنني شخصياً.. أختلف تماماً مع هذا التوصيف؛ إذ يوحي الوضع العام في سورية بأن الجميع بلغ من الإنهاك الحدَّ الذي يدفعه نحو الدبلوماسية. في سابقة لم تشهدها البلاد منذ بداية أزمتها، لم تقع أية مواجهات عسكرية كبرى، ولم تتغير خريطة توزع النفوذ أو القوى العسكرية على الأراضي السورية، طيلة الأشهر التسعة الماضية تقريباً، أي منذ مارس(آذار) عندما توصل الجانبان الروسي والتركي إلى اتفاقهما الأخير حول إدلب.

كذلك ستدْخلُ إدارة جديدة البيتَ الأبيض أوائل العام الجديد، وهي تهدف إلى إحياء "الأممية الليبرالية" و"القيم الديمقراطية" واستعادة الدور الذي لم يرغب ترامب أن يلعبه بتولي "القيادة العالمية". وفي حال تم إقرار فوز بايدن أو ظل ترامب في البيت الأبيض، يمكن أن تكون سورية مدخلاً مهماً وخطوة أولى تثبت الكثير بالنسبة لأميركا وإدارتها الجديدة، من قبيل أنها لم تتخل عن الشرق الأوسط ولا عن حلفائها فيه، ولن تتركه متخبطاً بين أطماع القوى الدولية ومشاريع الهيمنة الإقليمية. والأهم في ذلك كله أن أميركا مازالت هي الأقدر على صنع السلام في كلّ البقاع في العالم، وهي الأولى بين أصحاب الخبرة في اجتراح الحلول وإيجاد المخارج في الأزمات، فلتثبت لمن يعنيه الأمر أن التزاماتها الدولية ليس محض كلام ووعود في الهواء.

يجب أن تدرك الإدارة الأميركية أن سورية بحد ذاتها قضية مركزية، بغضِّ النظر عن محاربة التنظيمات الإرهابية أو احتواء إيران، ولا يمكن التفكير بمستقبل المنطقة عموماً والسيناريوهات التي قد تشهدها إذا ما تمَّ التعامل مع الملف السوري كما لو كان ثانوياً، وجرى ربطه بملفات أخرى.

لذلك فإن قصر النظر وتخبط الاستراتيجيات اللذان تسببا في فشل القيادة الأميركية (أيام أوباما وبعده ترامب) يجب أن يصبحا من ذكريات الماضي. وإذا وضعت أميركا حداً للحرب في سورية ، فإنها ستقدم بذلك دليلاً على أنها لاتورط نفسها دائماً في مستنقعاتِ الحروب التي لا تنتهي. وإذا لم تشهد السياسات الأميركية تغييرات جذرية لجهة تعاطيها مع الملف السوري، فإن الأمور ستتجه نحو الأسوأ.

في هذا السياق، يستحسن بالرئيس ، سواء جاء بايدن أو بقي ترامب، أولاً وقبل كلّ شيء أن يعيد النظر في العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، وسياسة "الضغط الأقصى" المطبقة عليها، لأنها تخنق السوريين العاديين وتحاربهم في لقمة عيشهم وفي حاجاتهم الأساسية كالطعام والدواء، وتشعرهم أنهم معاقبون لأنهم فقط اختاروا أن يظلوا في بيوتهم ولم يصبحوا لاجئين في دول أخرى! وما يزيد في شعورهم بالإحباط أنهم مُستثنون حتى من المساعدات الإنسانية التي ترسلها الحكومات الغربية "إلى سورية"، والتي تقدم لمن استطاع الفرار من اللاجئين، أو للمناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية. هكذا يشعر السوريون ممن يعيشون في بلادهم أن إفقارهم هو عبارة عن عملية متعمدة، خصوصاً وأن العقوبات تمنعهم من مساعدة أنفسهم وتحرم محاولاتهم لإعادة بناء حياتهم من أي حظ بالنجاح.

وتقف هذه العقوبات عائقاً أيضاً في وجه أي تقارب عربي مع دمشق، الأمر الذي يمنع حدوث أي تغيرات مهمة في سلوك دمشق خصوصاً فيما يتصل بعلاقتها مع طهران، ويكبّد المنطقة ككل مزيداً من الخسائر نتيجة استمرار الحرب أو حالة "اللاحرب و اللاسلم" التي تعيشها سورية اليوم.

ومن الضرورة بمكان أن يدرك الرئيس الأميركي، إذا وصل بايدن الى هذا المنصب أو بقي صاحبه الحالي، كذلك أن التحديات القائمة في سورية ومراكز القوة وخرائط النفوذ فيها تختلف اليوم عما كانت عليه سابقاً؛ وأن إعادة الانخراط في العملية الدبلوماسية المتعلقة بسورية تتطلب تعاوناً وليس تحدياً، وهذا غالباً ما سيضمن إنهاء الحرب بشروط لا تتعارض مع المصالح الأميركية. يجب أن تحدد أميركا مصالحها، وألا تتردد حتى بالاعتراف بالإخفاق في سورية، فعندما يفوز خصمك وفق الشروط التي وضعتها، لن تخسر!

ولعل تنازل أميركا عن المنطقة هو أسوأ الخيارات الممكنة. فذلك سيعني ازدياد نفوذ خصومها التقليديين، وفي مقدمهم روسيا، كما سينعكس لا محالة على ملفات أخرى من العالم، وسيؤدي إلى وضع حلفائها في المنطقة (دول الخليج وإسرائيل) وجهاً لوجه مع التهديد الإيراني المباشر. وتتمثل إحدى النتائج الخطيرة التي قد تترتب على نأي واشنطن بنفسها عن المنطقة، في فتح الباب واسعاً أمام الأطماع التركية وزيادة غطرستها التي قد تعني مطالبتها بأدوار أكبر في حلف شمال الأطلسي، أو حتى خروجها منه. وفي الحالتين سيَعرِّض ذلك مصالح دول الناتو إلى تهديدات جسيمة.

من جانبها، ستكون روسيا مستعدة لتقديم التنازلات أيضاً، إذ تدرك في الغالب أنها تكاد تعدم الوسيلة، فتدخلها العسكري المباشر في سورية أكمل عامه الخامس من دون أن يحقق أي اختراقٍ يذكر لجهة التوصل إلى حلٍ سياسي "على الطريقة الروسية". لذلك فهي أولاً تحاول البحث على الدوام عن أدوات تضمن استمرارية السلطة في سورية وتجميل صورتها بما يسمح بعودتها إلى الساحتين الإقليمية والدولية. و ثانياً، تفتش عن رأس المال الغربي اللازم لإعادة إعمار البلاد وعودة اللاجئين، وهذان ملفان لا تستطيع وحدها النهوض بأعبائهما. أضف إلى ذلك أن المكتسبات التي حققتها روسيا مهددة جرّاء استمرار الوضع في سورية على ما هو عليه وغياب آفاق الحل المؤدي إلى استقرار، وتزايد النفوذ الإيراني هناك.

لقد لعبت وسائل الإعلام التابعة لطرفي الصراع في سورية، عن علم أو من علم، دوراً كبيراً في اختزال تشعبات الحدث السوري ومفاعيله ودينامياته العويصة، إلى معركة سطحية بين الخير والشر (نحن الأخيار والآخرون هم الأشرار). فكل جانب يحاول شيطنة الآخر، من دون أن يدرك أن ذلك يعني استحالة تقديم التنازلات، لأن قلّة فقط هم من يجرؤون في السياسة على أن يكونوا "الدكتور فاوست" لتحقيق الخير الأعم. والحق أن بناء السلام دون تقديم تنازلات هو ضرب من الخيال، ودونه تنتفي الدبلوماسية وتصير "الضربات الصاروخية" هي أداة السياسة الوحيدة، بكل ما تعنيه من خراب وضحايا.

تؤكد أطراف الحرب السورية كلها، المؤثرة بشكل مباشر أو غير مباشر، أن الحل في سورية لن يكون إلا سياسياً ولن يتم إلى على طاولة المفاوضات. ومع ذلك فإن الاتفاق على هذه الفكرة العامة لا يلغي حقيقة أن الشيطان يكمن في تفاصيل الحل، طبيعته وكيفية تطبيقه وقدرته على تحقيق مصالح جميع الأطراف المتشابكة.

وهنا أقول إن للحل في سورية معالم رئيسة، يمكن اعتبارها مسلمات، إذ يجب أن يضمن وحدة وسلامة أراضيها، وخروج كلّ القوات الأجنبية، ووضع حد لتمدد ايران وتركيا، وإعادة اللاجئين عودة آمنة وكريمة. وينبغي أن يضمنه الجانبان الروسي والأمريكي، وبما لا يتعارض مع السيادة السورية. أما التفاصيل الأخرى فيجري الاتفاق عليها حول طاولة المفاوضات. كما يجب أن يتم استثمار رأسمال سياسي لا يقل من حيث القيمة عما هو مطلوب لإعادة الإعمار.

حبذا لو يكون الوسيط لاجتراح هذا السلام عربيا.ً وليس من دولة تستطيع التصدي لدور كهذا باقتدار كدولة الإمارات العربية المتحدة ، فهي على علاقة ممتازة مع فواعله الرئيسة (أميركا وروسيا وسورية والمملكة العربية السعودية التي تحظى بتقدير القيادة السورية) ولقد أثبتت على مدار السنوات الماضية نواياها الحسنة، إذ انصب تركيزها على مصلحة السوريين المكلومين قبل أي شيء آخر، كما أثبتت دبلوماسيتها النشطة والشجاعة فاعليتها وقدرتها على تحقيق النتائج.

استمرار الأزمة السورية يعني المضي في استنزاف المنطقة العربية بالدرجة الأولى بشكل كبير ومؤثر، وفي استنزاف الإقليم برمته بالدرجة الثانية. من هنا، على الأطراف الإقليمية والدولية كافة العمل على معالجة الأزمة معالجة ناجعة. فاستمرار الوضع الراهن في سورية يعني إسقاط عنصر وازن ومؤثر من معادلة الاستقرار في الشرق الأوسط، وسيظل السلام في المنطقة بعيد المنال.

من دون سلام يشمل المنطقة كلها سنكون كلنا بلا شكٍّ خاسرين.