بقلم إبراهيم العلوش


رفع الإيرانيون وتابعوهم في العراق أيقونات قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مقابل صورة اللقاء التاريخي بين البابا فرنسيس والمرجع الشيعي علي السيستاني، وغطّت وسائل الاعلام الإيراني زيارة البابا بغضب و باتهامات المؤامرة والتواطؤ مع الغرب وإسرائيل!
في ظروف قاهرة من العنف والوباء أصرّ البابا فرنسيس على زيارة العراق في الخامس من هذا الشهر، وأصرّ على زيارة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في النجف الأشرف، واستحضر التاريخ بزيارته لمدينة "أور" التي جاء منها النبي إبراهيم أبو الأديان السماوية الثلاثة، خاصة وأن الكنيسة الكاثوليكية اعتبرت منذ الستينيات من القرن السابق أن الإسلام جزء مهم من الديانات الابراهيمية، وأنهت قرونًا من العداء، واستقبلت أوروبا المسلمين كمواطنين فيها. وزار البابا مدينة الموصل التي ما تزال مهدّمة مثل مدينة الرقة السورية التي اجتاحها الإرهاب الداعشي ودمرتها الطائرات والصواريخ الغربية والروسية!
كان البابا السابق يوحنا بولس الثاني مصرًا على زيارة العراق قبل نهاية القرن الماضي، ولكن النيّة الامريكية باجتياح العراق وتأجيره لإيران، ألغت تلك الزيارة في العام 1998، وفاز البابا فرنسيس بلقب أول بابا يزور العراق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.
لقاء البابا مع المرجع الشيعي في مدينة النجف الأشرف اعتبرها الإيرانيون تحديًا لمرجعية "قم" الإيرانية وولاية الفقيه التي لا يؤمن بها السيستاني، خاصة وان عمر مرجعية النجف يقترب من الألف عام بينما مرجعية "قم" لم تكمل مئة عام من عمرها. بل ان السيستاني وقبل الزيارة رفض استقبال إبراهيم رئيسي رئيس السلطة القضائية الإيرانية، تلك السلطة التي تعيث فسادًا بحق الأقليات الدينية والقومية، وتعتمد لغة المشانق لحل التوترات الاجتماعية والدينية في إيران سواء ضد العرب، أو ضد الأكراد، أو ضد البهائيين، أو غيرهم من الأقليات المتعايشة في إيران قبل انفجار الفاشية الدينية.
وتهجمت الوسائط الإعلامية الإيرانية على زيارة مدينة "أور" بزعم أنها تدفع العالم العربي إلى الاعتراف بتآخي الديانات السماوية كحجة من أجل التطبيع مع إسرائيل كما فعلت الدول الخليجية، بعد ان دفعتها الاعتداءات الإيرانية إلى التحالف مع إسرائيل في سبيل تجنب الوحشية الإيرانية المسلحة بالصواريخ، و بالمشروع النووي، و بدعم بشار الأسد، وحسن نصر الله، والحوثي، والجوقة الميليشياوية في العراق.
ولم يستوعب الإيرانيون الصور التي تداولتها وسائط الميديا العالمية التي تنشر الفرح بزيارة البابا بين مسيحيي العراق وسائر مواطنيه الذين تهجّرهم الميليشيات الإيرانية و تابعوها في الحشد الشعبي بحجة محاربة الإرهاب، وحيث تفتك إيران بشباب الانتفاضات في الجنوب العراقي وفي بغداد، فان المرجعين الدينيين السيستاني وضيفه البابا قدما للعالم صورة تاريخية لتلاقي الأديان والمذاهب، وعبّرا عن أملهما أن تصمت الأسلحة، وأن يعم السلام بين المكونات الدينية والقومية في العراق الذي طال الصراع الإيراني العربي فيه إلى حد لم يعد يطيقه لا السنة ولا الشيعة ولا المسيحيون، لقد بلغ العدوان الإيراني حدًا غير مسبوق في التجبّر واستعراض القوة، لقد ردّ الرجلان بعودة الدين إلى المحبة والسلام والإيمان العميق، وأن يبتعد رجال الدين عن السياسة التي مزقت طهارة الدين سواء من قبل داعش أو من قبل اتباع ولاية الفقيه الإيرانية.
في نفس الوقت وفي لبنان تهجمت قناة العالم الإيرانية على البطريرك اللبناني بشارة الراعي الذي كان حليفًا لحزب الله أو كان صامتاً عن عبثه في لبنان وعن جرائمه في سوريا، وكالت له تهم الخيانة والتواطؤ من أجل اللقاء مع إسرائيل وتمرير السياسيات المعادية للهيمنة الإيرانية على لبنان لأنه انتفض على هيمنة حزب الله، وقد رفض السفير الإيراني الامتثال لدعوة وزارة الخارجية اللبنانية إثر ذلك التهجم، مستهترًا بالأصول الديبلوماسية باعتباره أن لبنان مجرد محميّة إيرانية يديرها حزب الله وأنصاره بالتحالف مع ميشيل عون وحزبه.
لماذا تقلق إيران من زيارة البابا؟ هل قرأت فيها تحولًا جذريًا في السياسات العالمية تجاه إيران حيث شبهها البعض بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى بولونيا التي تبعها انهيار الامبراطورية السوفياتية في العام 1991، أم أن إيران بدأت تشعر بخسارتها الديبلوماسية والمعنوية في دول المشرق العربي وتم نبذها بالتعاون مع الدول الغربية، خاصة بعد إلغاء الاتفاق النووي معها والحصار الاقتصادي الذي يخنقها، وبعد أن تعالت الأصوات لإعادة التفاوض على النفوذ الإيراني في العالم العربي و إشراك الدول المجاورة لإيران في التفاوض المستقبلي في العودة إلى اتفاق 5+1.
لقد فشلت المساعي الدبلوماسية الفرنسية في التوسط مع إيران خاصة مع إفشال إيران لزيارة الرئيس الفرنسي " إيمانويل ماكرون" إلى لبنان في السادس من آب أغسطس الماضي بعد انفجار بيروت المروّع، ومنعته من إنقاذ لبنان بالتخفيف من هيمنة حزب الله على السياسة والاقتصاد اللبنانيين، وكان الرئيس الفرنسي قد قالها صراحةً لحزب الله فلتخرجوا من سوريا، وفي الداخل اللبناني عليكم الاختيار بين السياسة والعسكرة، استاءت إيران ونددت بالخطط الفرنسية والغربية في لبنان، ولم تتوقع أن ينهار الاقتصاد اللبناني بتلك السرعة رغم محاولات حزب الله الخروج ببدائل، لكنها كانت فاشلة وقادت لبنان إلى الانهيار تمامًا كما قادت سياسة إيران وحزب الله سوريا إلى نفس الفشل والانهيار!
مرّ النبي إبراهيم في رحلته التاريخية من "أور" إلى "أورفا" التركية ومن ثم إلى عين العروس في الرقة في طريقه إلى القدس، وفي ذلك الطريق الذي لو مرّ عليه البابا اليوم بعد زيارته لمدينة "أور" لوجد عشرات آلاف المعذبين السوريين الذين تدمرت بيوتهم وضاقت بهم الحياة إلى درجة بيع كِلاهم وأجزاء من أجسادهم من أجل أن تستمر عائلاتهم بالعيش، بسبب الوحشية الإيرانية والروسية الداعمة لنظام بشار الأسد.
لقد لخص البابا زيارته إلى العراق بكلماته الأخيرة التي اغضبت إيران وتابعيها: فلتصمت الأسلحة... سلام.. سلام.. سلام!