الفنان الذي حمل العراق في قلبه :
رحل الملحن والمغني العراقي الثوري الكبير جعفر حسن (ابو تانيا ) ، رحل يوم الاثنين المصادف 19 نيسان الجاري، في مدينة أربيل، متاثراً بإصابته بفيروس كورونا.
جعفر حسن , ابن خانقين البار , هذا الفنان الكبير الذي تابعه الملايين من المستمعين العرب وغير العرب من المحيط إلى الخليج ،ولم يكن أحد يسأل من أي بلد هذا الفنان الثوري والملحن الكبير .
يعتبر جعفر حسن من الأسماء البارزة التي قدّمت للأغنية العراقية والعربية الثورية الكثير وخاصة في منتصف الستينيات, فقد سجّل أول أغنية له في إذاعة بغداد بعنوان " كلما أتمعّن برسمك انسى روحي وانسى اسمك " من كلمات محمد القبانجي والحان جميل سليم .
من الجدير بالذكر ان الفنان جعفر حسن هو أول من لحن أغنية للريل وحمد عام 1956، حين كان لايزال طالباً في معهد الفنون الجميلة ولكن الإذاعة العراقية لم توافق على تسجيلها في وقتها بحجج واهية كنوع من المضايقات والعراقيل لأسباب سياسية كونها الشاعرالكبير مظفر النواب والملحن جعفر حسن المعروفين بأفكارهم اليسارية .

قبل ان ادخل في صلب الموضوع لابد ان اقول : لقد تعرفت على الفنان الكبير جعفر حسن عام 1976 . اتذكر جيداً عندما التقيت به ولأول مرة وبفرقته الرائعة ( فرقة الرواد للأغاني الإنسانية والشعبية ) في مدينتي اربيل وتحديداً في ( هولي كه ل ـ قاعة الشعب ) في احتفالات 31 أذار ( عيد تاسيس الشيوعي العراقي ) ولاحقاً في مصيف شقلاوا وهو يغني للمرأة العراقية الباسلة وللفلاح والعامل والشبيبة وللاطفال وثوار فيتنام ونيكاراغوا وتشيلي . وبفترة زمنية قصيرة حفظنا كل تلك الاغاني الرائعة والتي طبعت في ذاكرتنا حتى هذا اليوم رغم مروراكثر من45 عاماً.
منذ تلك الحفلات والمهرجانات الشعبية نتذكر الكلمات والالحان و نرددها في الاحتفالات هنا وهناك ـ منها : يا بو علي ـ كلمات كاظم السعدي , ومساهرين وقبليني للمرة الأخيرة ـ ميراببوس ـ من كلمات جمعة الحلفي والخ من اغاني هادفة وثورية رائعة .
ابو تانيا ,هو اول من لحن للمقاومة الفلسطينية في الستينيات , وقد بدأ مع محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم , لحن ابو تانيا عشرات الأغاني للمقاومة الفلسطينية منها : ما دامت لي من الارض اشبار و شدوا وثاقي .
كما غنى لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا ولمناضلي امريكا اللاتينية , كما قدم لليمن أغنيته الخالدة “اليمن نعشقها” و غيرها من الاغاني التي كانت تحمل في طياتها مفاهيم أممية , انسانية صادقة ورائعة تفتح الافاق الرحبة امام كل من يسمعها لانها كانت تنبع من الروح العراقية المتوهجة بتنوعها ، ونابعة من التراث الثقافي والفني الانساني الرفيع .
وعليه ليس غريبا ان تتناول الصحف العربية عامة واليمنية خاصة قبل الصحف العراقية خبر رحيل الفنان الكبير جعفر حسن, والاكثر من هذا طالب الشعب اليمني يوم امس الجهات المعنية في اليمن بان تقدر جهود الفنان الكبير جعفر حسن واطلاق اسمه على احد الشوارع أو المعالم الفنية والادبية في اليمن .
سننتصر حتماً ويعم في وطننا السلام :
تأثرالفنان جعفر حسن باستشهاد الفنان فيكتور جارا ‏على يد جلادي بينوشيه في عام 1973 بسبب نشاطاته الداعية لتحقيق العدالة الاجتماعية ،وبعد استشهاده قام ابو تانيا بغناء أغنيتة الشهيرة فى رثاء جارا : (كان أملي أن القاك
في تشيلي
أو ألقاك
في أي مكان
أو مهرجان
أو ربما تاني هنا
أو أأتي اليك
لنغني أغاني أممية
للسلم للأشتراكية ).

ماذا قال لي الفنان جعفر حسن؟:
عرفت الفنان جعفر حسن منذ نعومة أظفاري كما اسلفت ، ففي طفولتي حينما كان يزورمقر الشيوعي العراقي في اربيل كان يزورنا ايضاً , حيث كان بيتنا بجانب المقرالواقع في محلة العرب الجديدة . كان والدي يحترمه ويحبه ويحيطه بالتقدير. بمرور الزمن اشتدت أواصر المحبة بيننا رغم فارق العمر , كنا متقاربين ومتحابين .
امتاز ابو تانيا بصفات وأخلاق نبيلة، صريح، لا غبار في كلامه، فنان بمعنى الكلمة , كان صارماً وحازماً مستميتاً في الدفاع عن مواقفه المشرفة ، يحترم ويصون بل يقدس الصداقة ويبدي استعداده ليضحي بدمه وروحه من أجل رفاقه .
كان جعفر حسن من أوفى وأعز الأصدقاء على قلبي ويعزى ذلك إلى الأسس الأخلاقية والمبادئ التي لم يفقده حتى آخر أيام حياته.
بعد ان نشرتُ في ايلاف مقالاً بعنوان ( عادل إمام والذاكرة الكوردية المثقوبة) , كتب لي الصديق والعزيز ابو تانيا هذه الكلمات : (عزيزي كاك شه مال ,تمنياتي أن تكون بخير ,مقالتك الرائعة (عادل إمام والذاكرة الكوردية المثقوبة ) أعجبتني جداً لأنها تشفي بعض الغليل وتحط اليد على جراحنا التي بات الكثيرون يتناسوها تعمداً في زمن الأستهلاك الثقافي.
تهاني الطيبة اليك,محبتي ـ جعفر ).
وعندما ارسلت له صورته المحفوظة في ارشيفي وهو بصحبة فرقته (فرقة الروّاد )أثناء زيارتهم لأربيل عام 1976 ,كتب لي الصديق والرفيق جعفر حسن : (عزيزي كاك شه مال ,شكراً لتواصلك الدائم وشكرأ لهذه الهدية القيمة , أنت جزء من ذكرياتنا الجميلة في اربيل و شقلاوا حين كنا نلتقي بالناس ونغني أغانينا في خضم تلك الأيام المشحونة بالتفائل والقلق والترقب , لقد كانت أياماً لا تنسى ..محبتي ـ جعفر ) .
كما كتب لي معاتباً الاعلام العراقي والكوردي الذي كان يتعامل معه بنفس عقلية اعلام النظام البائد,ولم يهتم به على الرغم من مسيرته الفنية الطويلة والمميزة والراقية , كتب ابو تانيا : ( عزيزي كاك شه مال , أنت دوماً في القلب يا ابن الغالي ,ولكن للاسف نحن في زمن النفاق والإنتهازية, فعلاً نحن في زمن بائس رديء، تراجعت فيه القيم، بل انعدمت امام هذا المد المخيف. وبالرغم من عدم استقراري السكني منذ عودتي إلى العراق وتنقلي من بيت لبيت مستأجراً حيث لا أرض ولا مسكن , فأنا مشغول هذه الايام بإعادة وتوزيع بعض الأعمال الغنانية السابقة بالإضافة للجديد في ستوديو المنزل الصغير حيث حولت احدى الغرف إلى ورشة لإنجاز أعمالي بامكانياتي البسيطة كي اعيد لذاكرة الآخرين بعض ما غنيناه سابقاً بالإضافة للجديد , لأضعه على ـ اليوتيوب أطال الله عمره ـ لأن الفضائيات لازالت تتعامل معي بنفس العقلية السابقة وكأننا في زمن المقبور , تقبل تحياتي الطيبة ـ جعفر) .

الكل ساكت ويتفرج :
اما عن اسباب انتشار الاغاني الهابطة في العراق والوطن العربي بشكل عام والتي تروج لثقافة القتل والتعذيب والثأر, قال لي ابو تانيا : ( أشعر اليوم بحُزَن شديد جدًّا , ونحن لازلنا نعاني من اغاني الخيارة والبطيخة والباذنجانة والرمانة والبرتقالة والعقربة والافاعي وكل الحيوانات الضارة والمفترسة , لقد ظهرت موجة جديدة من الاغاني الانتقامية السادية من المرأة والحبيبة ـ ولو تفحصنا جيداً لوجدناها دون المستوى الفني المطلوب شعراً ولحناً وصوتاً ناهيك عن انها تروج لثقافة العنف والتمرد) .
واضاف : (انها ماساة حقيقية وانحطاط ثقافي بكل المقاييس الشعرية والموسيقية والغنائية المتعارف عليها , ومن المؤسف حقاً انتشار هذه الموجة من الاغاني الهابطة المهينة للمرأة والمجتمع ( والكل ساكت ويتفرج ), بل ان تلك الاغاني تذاع ليل نهارعلى لسان واصوات أشباه المغنيين النشاز الذين يملأون الشاشات والاسماع ويسيئون للغناء والموسيقى العراقية التي تعبر عن القيم الحضارية الانسانية النبيلة وتحمل في طياتها احاسيس وامنيات شعب عريق وعواطف صادقة وغزل صافي نقي للمحبين) .

اخيراً اقول :
رحل الفنان والملحن الكبير والرفيق المخلص والصديق الرائع جعفر حسن تاركا لنا ارثاً فنياً كبيراً خلال مسيرته الفنية الصادقة بعد ان حمل هموم الفن والتراث العراقي الاصيل على عاتقة وصال وجال في اصقاع الارض ولم يستسلم لأي يأس ، بل كان يعيش دائماً بالأمل في مستقبل أفضل.
سيبقى الفنان الكبير جعفر حسن رائد الأغنية السياسية والثورية في العالم العربي عنواناً للوفاء الوطني والاخلاص الطبقي , ورمزاً كبيراً بحجم العراق للأبداع من اجل الإنسانية وتحريرالشعوب من الاضطهاد.
إلى اللقاء ايها الصديق والرفيق والفنان الأممي الكبير جعفر حسن
والعزاء للوطن النازف .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعفر حسن مواليد خانقين 1994 , ملحن وموزع موسيقي وعازف على اكثر من ألة موسيقية ومغني ثوري . تجربته الفنية بدأت منذ طفولته وهو يعزف على الناي . شارك في عدد من الفرق الموسيقية , ومنها فرقة أبناء دجلة للموشحات مع الفنان الرحل روحي الخماش . دخل إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1960 .يعتبر جعفر حسن من رواد الاغنية الثورية . في مطلع السبعينات أسس فرقة الشبيبة و فرقة الروّاد والتي ضمت عدد من المبدعات والمبدعين حاملين هموم الشعب والوطن في قلوبهم . عمل في تدريس الموسيقى والموشحات والغناء , كما عمل مهندساً للصوت . منذ عام 1973 مُنع من دخول الاذاعة والتلفزيون بسبب انتمائه السياسي . كان عضوا في الفرقة القومية للفنون الشعبية , ومن اعضاء المؤسسين لفرقة الكورال التابعة للفرقة القومية العراقية للفنون الشعبية والتي تاسست عام 1969 من ( 40 ) عضواً . تعرض الفنان جعفر حسن للاعتقال مرتين والملاحقة في اواخر السبعينات من قبل النظام البعثي وبقرار من وزارة( ثقافة صدام ) تم اتلاف والقضاء على كنز أرشيفه الغنائي من الإذاعة والتلفزيون .بعد هجرته القسرية ,استقر الفنان جعفر حسن في اليمن و أسس هناك فرقاً موسيقياً وأصبح عميد لمعهد الفنون الجميلة وبقت هناك 20 عاماً . لحن جعفر حسن لفنانين يمنيين وجدد بعض الاغاني التراثية اليمنية وقام بمزج مابين التراث اليمني والعراقي . في عام 1994 ترك عدن بعد ان ساءت الاوضاع هناك واستقر في محطته الثانية (ابو ظبي) و اصبح مستشار المجمع الثقافي وبقى هناك 10 سنوات . وبعد سقوط النظام العراقي رجع إلى العراق . قدم الكبير جعفر حسن ألحاناً لعشرات المطربين اليمنيين والمصريين منهم ( محمد منير ). من الجدير بالذكر ان تجربة الفنان الكبير جعفر حسن الموسيقية والغنائية كانت مميزة وحافلة بالإبداع رغم التحديات التي واجهته من قبل النظام البعثي الفاشي والاهمال المتعمد من قبل بغداد واربيل بعد سقوط الصنم .