الرئيس "سليمان فرنجية" هو من القادة اللبنانيين المسيحيين الذين كانت لهم في الأساس نظرة إيجابية معينة الى السياسة الأمريكية حيال لبنان. ولكن ممارسته لسلطات رئاسة الجمهورية (1970-1976م) والظروف الإقليمية التي أحاطت بمدة رئاسته (بروز الصراع اللبناني-الفلسطيني) وتجاربه مع الإدارات الأمريكية، كل ذلك جعله يبدل نظرته تماما الى السياسة الأمريكية. ومن التجارب المرة التي أثرت على نظرته للأمريكيين ثلاث:
الأولى: زيارة "كيسنجر" الى لبنان واجتماعه به في 16 ديسمبر 1973م، حيث فوجئ بوزير خارجية الولايات المتحدة يعرض عله إمكانية ترحيل المسيحيين من لبنان.
الثانية: قيام مبعوث "كيسنجر" خلال حرب السنتين، السفير "دين براون" بتجديد العرض بضرورة ترحيل المسيحيين من لبنان، كحل للحرب اللبنانية. وهكذا اصبح لدى الرئيس "فرنجية" قناعة ثابتة بأن كل المصائب والويلات والنكبات التي تعرض لها المسيحيون، ويتعرضون وسوف يتعرضون لها، خلال هذه الحرب إنما هي نتيجة مخطط "كيسنجر" وهي تهدف بشكل أو بآخر الى تحقيق مثل هذا الترحيل.
الثالثة: المعاملة غير اللائقة، بل والمهينة التي تعرض لها الوفد الرسمي اللبناني الى الأمم المتحدة برئاسة الرئيس "فرنجية" وعضوية كبار الشخصيات اللبنانية (من رؤساء جمهورية سابقين ورؤساء مجالس نيابية ووزارية حاليين وسابقين). فقد كلف مؤتمر القمة العربي السابع الذي عقد في الرباط في شهر أكتوبر 1974م الرئيس اللبناني عرض القضية الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وذلك بمناسبة إدراجها في جدول أعمال الجمعية كبند مستقل. ولدى وصول الوفد اللبناني الى مطار نيويورك في نوفمبر 1974م، أفلتت إدارة الجمارك الأمريكية كلابا بوليسية متخصصة بمكافحة المخدرات لإشتمام أمتعة الوفد. وإزاء هذه الإهانة للكرامة اللبنانية، القى الرئيس "فرنجية" خطابه المعروف أمام الجمعية العامة باسم اللبنانيين والعرب، ولكنه اعتكف داخل مقره ورفض استقبال أي مسؤول أمريكي، وكل اعتذار أمريكي.
وهكذا، فقد ولدت المواقف الأمريكية من اللبنانيين عامة، ومن المسيحيين خاصة، قبل الحرب وطوالها، ولدت مرارة في أعماق الرئيس "فرنجية" الى الحد الذي دفعه لأن يكون السياسي المسيحي الوحيد في لبنان الذي تجرأ ودعا صراحة وعلانية الى قطع العلاقات مع أمريكا، مما كلفه ثمن الفيتو الأمريكي عليه لرئاسة الجمهورية لولاية ثانية عام 1988م.
في مقاربته لدور "كيسنجر" في لبنان والمنطقة، يركز الرئيس "فرنجية" على أربع نقاط:
1. التأكيد على وجود مخطط كيسنجري-أمريكي خاص بلبنان والمنطقة. فبعد مقابلة "كيسنجر" بات الرئيس "فرنجية" مقتنعا أن "كيسنجر" وضع خطة لتفجير الحوادث في لبنان، وأنه منذ العام 1974م بدأ مخطط "كيسنجر" يعمل في المنطقة.
2. أنه يملك براهين دامغة على ذلك. فإن سيئ الذكر "هنري كيسنجر" عرض عليه شخصيا الهجرة، ويقصد هجرة المسيحيين من لبنان. والبرهان الآخر على ما أقول هو الموفد الأمريكي "دين براون" الذي قدم الى لبنان فعرض خدمات بلاده في تقديم وسائل النقل اللازمة التي تمكن مسيحي لبنان جميعهم من الهجرة، وقد ابلغ هذا العرض لي شخصيا. فقد عرض علي قائلا: بإمكاننا خلال 48 ساعة تأمين جميع وسائل النقل اللازمة لكم. لقد جاء بهذا القصد ثلاث مرات متتالية في أقل من شهر ليسألنا كم نستطيع المقاومة؟ وإلى متى نستطيع الصمود؟ وإن جميع وسائل النقل جاهزة لنقلكم.
3. إن الهدف الكبير للمخطط الأمريكي، بحسب الرئيس "فرنجية" هو إيجاد أرض عربية للشعب الفلسطيني خارج فلسطين، أي في لبنان وعلى حسابه لأننا ضعفاء. لذلك، فالمخطط الأمريكي يرمي الى تهجير جميع اللبنانيين المسيحيين من لبنان وإحلال الفلسطينيين مكانهم. فعندما يهجر اللبناني تغدو الأرض من دون سكان، فيقال للفلسطيني: لقد خسرت أرضك في فلسطين، فتفضل الى لبنان وطنا لك، وترتاح إسرائيل من القضية الفلسطينية.
4. يرى الرئيس "فرنجية" أن مخطط "كيسنجر" هو قائم ومستمر، أي: توطين الفلسطينيين في الأراضي اللبنانية، ولكنه يرى أن هذا المخطط قد مر بثلاث مراحل، أي ثلاث تجارب:
- التجربة الأولى: ترحيل المسيحيين وتقديم أرضهم للفلسطينيين. فشلت لحسن الحظ.
- التجربة الثانية: محاولة خلق دولة مسيحية على بقعة ضيقة من لبنان وتقديم الباقي هدية للشعب الفلسطيني. والذي يعمل لذلك هما إسرائيل وأمريكا معا بهدف خلق الجفاء بين المسيحيين ومحيطهم العربي الإسلامي، وإفساح المجال للإسرائيليين للإفادة.
- التجربة الثالثة: أخذ قسم من الجنوب وتوطين الفلسطينيين فيه.
ولعل أفضل ما يختصر موقف الرئيس "فرنجية" من مخطط "كيسنجر" هو الكلام الذي نقله عنه الصحفي "فؤاد دعبول" تعليقا على الاشتباكات الدامية في المنطقة الشرقية بين قوات الجيش اللبناني (العماد ميشال عون) والقوات اللبنانية (الدكتور سمير جعجع) خلال شهر فبراير 1990م، حيث ورد قوله:
"إن مخطط "كيسنجر" مستمر. إننا نعيش آخر فصول المؤامرة، وهي تفريغ هذا الوطن من أبنائه. إن تدمير لبنان وتهجير أبنائه هو هدية المتآمرين على لبنان لغير اللبنانيين. ومن "كيسنجر" إلى "براون"، هناك من يكمل الخطة بدقة متناهية. "كيسنجر" ذهب من الخارجية والإدارة الأمريكيتين، لكن المخطط بقي، وتنفيذه مستمر.
وحول ما يريده الرئيس "فرنجية" من أمريكا يقول: نحن لا نريد من أمريكا إلا ان تكف شرها عنا وتوقف المؤامرة المكشوفة التي أراد "كيسنجر" ان يدفع لبنان ثمنها بسبب موقفي في هيئة الأمم المتحدة ودفاعي عن حقوق الشعب الفلسطيني. وها نحن ندفع الثمن مرتين، مرة من الذين هاجمناهم، ومرة من الذين دافعنا عنهم. لا هذا رحمنا ولا ذاك أنصفنا.
المصدر: لبنان في استراتيجية "كيسنجر"، مقاربة سياسية وجيو-استراتيجية. المؤلف: نبيل خليفة.
التعليقات