ما يحدث الأن من حرب في شمال أفريقيا وبالتحديد على رقعة ليبيا، بعد أن تحولت مياة شرق المتوسط من نسخة ثانية من مياة الخليج العربي المشتعلة، جعلنا نعيد قراءة التاريخ بشكل جديد وأكثر عمقا، كي نفهم أكثر ما يحدث الأن، فالتاريخ دائما ما يعيد نفسه، ولكم تلك القصة.

مع مطلع القرن الخامس عشر الميلادي كان الأسطول البحري البرتغالي يصول ويجول فى محيطات وبحار العالم، وأصبح متحكما تماما فى أهم الطرق البحرية التجارية بالعالم وقتها، ولسياسة البرتغال المعروفة بتضييق الخناق على مستعمراتها عاد ذلك الأمر بالخسارة على تجار مدينة البندقية الأيطالية مما جعل الأخيرة تبحث عن حل بعد أن أزدادت خسائرها بسبب ركود بضائعها، حتى أرسلت وفد الى مصر لكى يقنعها بأن تقوم بتخفيض الضرائب التى تفرض على البضائع الأيطالية التى تستقر بمصر لكى تعود لمنافسة البرتغال مرة أخرى، ولكن مصر المتضررة أيضا كانت تبحث عن حل جذرى، وكان هدفها أكبر من بيع التوابل والعطور والأقمشة والأخشاب، وكانت تبحث عن سيادتها فى أعالى البحار، ولكن كيف والبرتغال أسطولها البحرى يمتد حتى سواحل الهند ومسيطر على كلا من ميناء جاول وكوزيكهود وكانور وجوجارات بالهند.

وفي عام 1498م وصل فاسكو دى كاما للهند كي تصبح للبرتغال الكلمة العليا على سواحلها، وتحالفت البرتغال مع مملكة كوجين، لكي تؤسس البرتغال بعد ذلك لمقراتها بكجرات، وفى عام 1505م أرسل ملك البرتغال مانويل الأول تعزيزات عسكرية ضخمة للامبراطورية البرتغالية الوليدة بسواحل الهند بقيادة نائبه دوم فرانسيكو دى الميدا، وبعدها بعامين أي فى عام 1507م قامت البحرية البرتغالية بقيادة أفونسو دى البوكرك بغزو على مدخل البحر الاحمر ومضيق هرمز حتى باتت كل مداخل المنطقة البحرية بيد البرتغال وحدها.

فكان البرتغاليون وقتها فى غاية النشاط بمدينة كوزيكهود الهندية، بالرغم من أن مدينة جوجارات الساحلية كانت أهم بالنسبة للتجارة بين الشرق والغرب، حيث كانت تمثل معبرًا هامًا للتوابل والبخور والبضائع التى تمر من الصين الى مصر وبلاد الشام.

وكانت مصر والشام وقتها تحت حكم المماليك، ولم يكن لديهم خبرة كبيرة فى الملاحة البحرية، فبدأت مصر بأستيراد الأخشاب عبر البحر الأسود لبناء الأسطول الذى سيخوض المعركة ضد البرتغاليين، ولكن بتحريض أوروبي قام فرسان القديس يوحنا الذين عرفوا فيما بعد بأسم "فرسان مالطا" بمهاجمة قوافل الأخشاب المتجهة الى مصر، ولم تسلم أى قافلة من عمليات القرصنة الممنهجة من الصليبيين، فكان بالكاد يصل نصف الكميات المطلوبة من الأخشاب لكي تنقل بعد ذلك على ظهور الجمال الى ميناء السويس البحرى ليبدأ تجميعها تحت إشراف نجارين مهرة من مدينة البندقية الإيطالية أرسلوا خصيصا بعد أن علمت البندقية نية مصر تجاه البرتغال.

فلم يكن غريبا على أيطاليا التى ولد بأشهر جزرها الا وهي جزيرة صقلية أعظم قائد فى التاريخ الفاطمي الا وهو أبو الحسن جوهر بن عبد الله، المعروف بجوهر الصقلي مؤسس مدينة القاهرة وباني جامع الأزهر الشريف ومن أقام سلطان الفاطميين في المشرق وفاتح بلاد الغرب أن تتعاون مع مصر، كما أن جزيرة صقلية نفسها فى القرن التاسع الميلادى كانت أمارة فاطمية.

وأنتهت مصر من بناء أسطولها البحرى الجديد، وأخيرًا بدأ يتحرك الأسطول المصري فى فبراير 1507م تحت قيادة الأمير حسين الكردى الذى كان قائداً عسكرياً أيام السلطان قانصوه الغوري، لكى تضع مصر حدا من التوسعات البرتغالية فى المحيط الهندى، حتى وصل الأسطول المصرى إلى ميناء ديو عام 1508م، وتكونت حملته العسكرية من 6 سفن حربية و6 قطع بحرية ضخمة تحمل 1500 مقاتل برفقة سفير مدينة كالكوت الهندى، ولمعاملة البرتغاليين السيئة لأهالى الهند قام السكان المحليون الهنود مدعومين بقوات عربية فى عام 1507م بحصار كانور وصد قوات برتغالية أغارت على المدينة.

الى أن جائت "معركة ديو البحرية" بين البحرية البرتغالية والبحرية المصرية فى 3 فبراير 1509 ميلادى، والتى كان لها أكثر من بعد أستراتيجي وتاريخى، وكان من المخطط أن يرافق الحملة العسكرية المصرية القائد البحرى مالك عياذ وهو جنرال عسكرى مُحنك من أصل روسى، عمل تحت إمرة سلطان مدينة كامباى الهندية، وكان حاكمًا لميناء ديو، كما كان من المفترض أن ينضم الأسطول البحرى إلى حاكم كالكوت قبل أن يشن هجمات على القواعد البرتغالية على الساحل الهندى، لكن كان حسين الكردي قائد القوات المصرية قد تحرك.

رابضت سفن القوات البرتغالية بقيادة لورنسو دوم فرانسيسكو دي ألميدا (نجل نائب ملك البرتغال على الهند فرانسيسكو دي ألميدا) بميناء جاول، أما باقى الأسطول فأبحر شمالا لحماية السفن البرتغالية التجارية من هجمات القراصنة، ثم تحرك الأسطول المصرى المملوكى قبالة سواحل ميناء جاول وأشتبك مع القوات البرتغالية لمدة يومين متتاليين، حتى ألقت سفن القائد مالك عياذ بثقلها فى المعركة، وبدأت تتساقط سفن الاسطول البرتغالى واحدة تلو الأخرى، حتى تركوا البرتغاليين باقى سفنهم لتغرق بمدخل الميناء ومعهم قائدهم لورنسو دي الميدا.

وقد أنتهت تلك المعركة بأنتصار ساحق للقوات البحرية المصرية، ولكن سرعان ما أستعادت البرتغال توازنها بعد أن خطط نائب ملك البرتغال فرانسيسكو دى الميدا جيدا لردع المصريين وللثأر من مقتل أبنه لورنسو.

فمدينة ديو لم تكن مجرد مدينة عادية وقتها، ولكن كانت مركز تجارة حيوي بين الهند والغرب، فهو الطريق الذى انعش البرتغال ثم المملكة البريطانية فيما بعد.

فحركت البرتغال سفنها الضخمة المعدة بالمدافع وعادت فرض سيطرتها على خطوط الملاحة بالهند بعد الحاق الهزيمة بالجيش المصرى، وهى المعركة التى غيرت شكل الصراع بين الشرق والغرب الذى كان مشتعل وقتها ليس فى بيت المقدس، ولكن فى موانئ وسواحل الهند بحكم أهميتها التجارية والأقتصادية فى تلك الحقبة التاريخية.

ولان التاريخ يعيد نفسه فكان يجب علينا قراءة التاريخ وإسقاطه على ما يجري حاليا، فى ظل ما يشهده العالم من حرب تجارية وأقتصادية كل يوم تزداد شراسة، كي ندرك أبعاد قرارات تتخذ كل يوم من القوى العالمية والأقليمية وبنوك ومصارف دولية، كما كان علينا أن نذكر تلك الحقبة الزمنية وما بها من صراع شرس بين الشرق والغرب ليس من أجل بيت المقدس فقط ولكن من أجل التجارة والأقتصاد، وهو السبب الحقيقي لأي صراع، ونحن الأن نشهد مرحلة جديدة من ذلك الصراع القديم الحديث مع تدشين الصين لخط الحرير.

فالفترة التى يعيشها العالم حاليا تشهد نفس الصراعات ولنفس الأسباب، سواء كان الصراع هنا على موارد الطاقة، أو هناك على طرق الحرير والتجارة، فكثيرا من الليالي الحالية تشبه أيام البارحة، وكثيرا من معارك الغد ستكون تكرار لمعارك الأمس.

وفي قراءة التاريخ سنجد أجابات أكثر عمقا لمشاهد عديدة مثل سبب أعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحرب التجارية على الصين، ثم على دول الأتحاد الأوروبي، ولماذا تحرك الأطلسي لوقف أمدادات خطوط السيل الروسية للغاز تجاه أوروبا، وكيف جاء رد فعل بوتين لكسب أكبر أمتي بأوروبا (فرنسا والمانيا) عبر ورقة الأقتصاد والتجارة، وحينها أيضا سنعلم لماذا إنحازت المانيا وفرنسا لصالح أيران ضد الولايات المتحدة، ولماذا إنحازت فرنسا والمانيا لقطر بشكل واضح منذ اللحظة الأولى لأعلان الرباعية العربية لمقاطعة قطر، كي لا تكون هزيمة قطر أمام السعودية هزيمة لهم أمام الأمريكي فى الشرق الأوسط، فى ظل كم المصالح الأقتصادية التى تربط الدوحة بفرنسا والمانيا، ولا يخفي على أحد أن التجارة والأقتصاد أحدى المحركات الأساسية للحرب الدائرة الحالية بالأقليم، وهي الحرب التى لم يعد نتيجة حسمها مقتصر على السلاح فقط، فالهدف من الحرب ليس تصفية رئيس بعينه أو نظام دون غيره، بل كان هدف الحرب الخفي ما بباطن الأرض، فى ظل أنتهاء أخر أحتياطات القارة العجوز من الغاز الطبيعي ببحر الشمال، وفى ظل رغبة الأنجليزي فى تحويل شرق المتوسط نسخة ثانية من الخليج العربي، قبل أن تخرج استكشفاته بعيدا عن أعينه، وهى مهمة السفن البحرية البريطانية المرابضة بسواحل شرق قبرص وبمالطا.

فأن كان التواجد العسكري الروسي المتنامي فى الشرق الأوسط وسلاحه المتزايد بين أيدي جيوش المنطقة أمر مزعج للاطلسي، فأرقام حجم الصادرات الصينية تطير النوم من عقول الأقتصاديين بالولايات المتحدة، ولذلك تخوض الأن الولايات المتحدة مرحلة جديدة من الحرب العسكرية والإستخباراتية ضد روسيا فى القوقاز والبلطيق والشرق الأوسط، وحرب تجارية ضد الصين بكل البحار والمحيطات والموانئ فى العالم.

نعم أنها حرب تجارية أقتصادية فى المقام الأول قبل أن تكون حرب سياسية إستخباراتية، فاللاقتصاد هو من حرك الساسة ووجه بوصلة أجهزة الإستخبارات، وهنا أتذكر شعار حملة انتخابية للرئاسة الأمريكية عام 1992م، تمكن من خلالها محامي أمريكي في الأربعين من عمره أسمه بيل كلينتون أن يهزم رئيساً مخضرما كجورج بوش الأب الذى جاء إلى كرسي الرئاسة بعد أن مكث بمنصب نائب الرئيس لمدة ثمانية أعوام، وقبلها شغل منصب مدير وكالة الإستخبارات المركزية، وهو من جاء إلى كل تلك المناصب من بيئة مالية نفطية قلّما خلت شركة بارزة من شركات النفط من أسمه أو أسم أحد أبنائه (جورج، جيب، روبين، نيل، دوروثي، مارفين) كعضواً في مجلس إدارتها أو مساهماً كبيراً من مساهميها، وكان شعار حملة بيل كلينتون يتلخص فى أربعة كلمات فقط وهم "إنه الاقتصاد أيها الغبي".