الشكر نعمة كبرى.. مَن وُهِبَ هذه النعمة فقد وُهِبَ الثراء والنماء والتوفيق والأمن من الكوارث التي لا نهوض بعدها..
قد تعتريه كوارث، لكنها كوارث تنبيه سرعان ما تزول، وإلى الخير تَؤُول.

بعض من نعرف تغمره النعم، ولا ترى عليه غير آثار الضيق والشكوى.. لا يرضيه شيء، ولا يعجبه حال، وآخرون يعيشون عيشة الكفاف لكنهم في نعيم مقيم، وشكر دائم، ورضا لا يفارقهم.. ترضيهم كسرة الخبز، وقطعة الحلوى، والكلمة الطيبة، والابتسامة البيضاء..

أولئك قوم أنعم الله عليهم بما لم يُنعِم به على بعض ذوي الثروات الهائلات.
قبل مدة رأيت مقطعًا لرجل من إخواننا السودانيين.. رجل في منتهى البساطة والتلقائية والكدح.. سأله آخر عن حاله، فأجاب بكلمتين في منتهى العمق والإيجاز والإيمان.. قال: «في زحام من النِّعَم»!

والله إنها كلمة نفضت في داخلي ركاماً من التقصير،كلمة ترجح بآلاف القصائد الطوال في وصف الحال،وشكر الواحد المتعال
كيف أوتي هذا الرجل البسيط هذه الإجابة الموفقة؛ إجابة يعجز عنها دكاترة الفكر،وأباطرة الثقافة
زحام من النعم!
قلتُ: وعكةٌ بسيطة تعتريني تجعلني أتذكر ما أنا فيه من ترف وهذا !
يا إلهي! ليست عدة نعم فحسب، بل زحام متلاطم من النعم.. نِعَم بعضها فوق بعض، وحين نقترب من عالم هذا الرجل الشاكر نجد النعم التي يعنيها رضا والديه عنه، صحته وصحة أسرته، توفر لقمة عيشهم، وجود مكان ينامون فيه، خلوّهم من الهموم.. هي والله أعظم النعم،

لم يَعْنِ أبدا أن لديه الملايين والقصور والمركبات والثروات..لم يَعْنِها أبدا؛ليست لأنها ليست لديه،بل لأن لديه ما هو أعظم منها في مقاييس الطمأنينة التي يشعر بها.
يا الله!حقًّا نحن في زحام من النعم،نعم ظاهرة وباطنة، نعم لا تخفى على مبصرٍ ولا كفيف،لا ينكرها جاحد، ولا يغفل عنها بَرّ.
جُبل الإنسان على الالتفات إلى ما ليس عنده، والانشغال بما لدى الآخرين،
تراه يتحسر على ما ليس له حق فيه.. يراقب ما عند الناس، ويعمى عما عنده، يهتم بما هو مفقود عما هو موجود، يضيع عمره حسراتٍ في حين كان أولى به أن ينشغل بالشكر على ما وهبه الله من نِعم.
والناس أصناف في ذلك:
رجلٌ يذكر ما أنعم الله عليه من نعم، فهو مدركٌ لها، حامدٌ عليها، يؤدي حقها حق أداء، ويستشعر نعيم الله عليه فنعم الرجل هو.

ورجلٌ أنعم الله عليه بنعمٍ لا حصر لها، وهو مدركٌ لها، لكنه مقصرٌ في حق الله من حمدٍ وشكرٍ وثناء، لا يعرف حق الله فيها ولا حق عباده، بل هو في تقصيرٍ عجيب، ويوشك أن يَنزع الله بركته منها.
ورجلٌ أنعم الله عليه بنعم، وحُجب عنه بعضها لحكمةٍ يعلمها الله، فهو مع ما هو فيه شاكر لله، مستشعر ما وهبه من نعم، ومتأمل ما عند الله.. لا يغره ما بين يديه، ويرجو ما لدى الله من مزيد، فنعم العبد هو، ونعم الصلاح الذي هو فيه.
بعضنا لا يستشعر النعم إلا حين تنزع منه، وبعضنا يعيش حياته كلها وهو يستشعر كل نعمةٍ هو فيها مهما كانت قليلة ضئيلة.
حين يعتاد الإنسان على النعم يظن في قرارة نفسه أنها حق أصيل لا يمكن أن يُنتزع منه، فهو لا يعرف نعمة الصحة إلا حين يمرض، ولا نعمة الأمن إلا حين يخاف، ولا نعمة الوقت إلا حين يفنى العمر، ولا نعمة الأحباب إلا حين فقدهم!
إذ أنّ الاعتياد آفة النعم ومقبرتها، وأسوأ ما يمكن أن يُبتلَى به المرء أن يتشبع بشعور الاعتياد، فلا يَهْنَأ بما هو فيه من نعيم، ولا يؤدي حق النعيم بالشكر الوافي، والشكر ليس أقوالا فحسب، بل صدقات وعطايا وإحسان لا ينقطع.
اللهم لا تجعلنا ممن لا يعرف نعمك إلا حين تُنزَع، ولا فضلك إلا حين يُمنَع.. اللهم اجعلنا دومًا حامدين شاكرين راضين حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللّهمّ اغمرنا بنعمة الشكر قبل نعمة النعيم، فإنك إن رزقتنا الشكر رزقتنا النعيم كله، ومِن ثَمّ صرنا في زحام النعم.