لي ربٌّ يعطي ويدهش، وما يعجزني شيء في هذه الحياة غير عجزي عن شكره على جزل عطاياه، وفخم هداياه.
نعم أشكر ربي سبحانه بكل ما أوتيت من حُب ومعرفة،وكلّ هِبَاته لا يحيط بها شكر.
بعض هباته لا يمكن أن تكون عابرة.
ثمة نعمٌ كثيرة تحيط بالمرء من كل مكان، نعمٌ لا تعد ولا تحصى، نعمٌ ظاهرةٌ وباطنة، نعمٌ يُنعم بها المولى سبحانه على عباده ويَمْتَنُّ بها عليهم.
من عظيم نعم المولى سبحانه عليّ أن خصَّني في مثل هذا اليوم بأيقونةِ حياتي وقمر قلبي فأحالت رمضاء حياتي إلى جَنّات وارفات، وفراديس ناضرات.
نعيمٌ مقيم يرافقني في كل مكان..
في حلّي وترحالي، في فراغي وانشغالي،في أفراحي وفي أتراحي.
إنها العنود، وما أدراك ما العنود..بسمة الوجود، وسيدة الورود،وطالع السعود.
بإشراق شمسها في حياتي ملأت منذ ساعتها كل فراغات فؤادي،وأعادت إلى روحي معاني الحياة، ورَتَّلَتْ عليها تواشيح السعادة.
حين سمعتُ صرختها الأولى لأول مرة في ذلك الصباحُ المشرق، تسلل صوتها عميقًا جدًا لأعماقِ وجداني..وحلّق بي فوق الغيوم
لقد كان يومًا غير سائر الأيام..
كان يومًا يُؤذِن ببداية عُمرٍ جديد لي ولها على حد سواء.
حين رأيتها لأول مرة شعرت بأن السماء كلها بنجومها وكواكبها ومداراتها ومجراتها دنت مني، وهمست أذني :
أيها الإنسان البسيط، لقد منّ الله عليك بهذه الفتاة العظيمة، فحافظ عليها، وقَدِّمْ ما يليق بهذا المنحة السماوية من قرابين الشكر، واعرف بها فضل ربك، كما عرفت بها فرحة قلبك.
منذ يوم ميلادها المَجيد الثلاثين من أغسطس وأنا أشعر في هذا اليوم تحديدًا وكل يوم بأنني مولود من جديد بروح أكثر إشراقًا وانطلاقًا، فما أدري بأي شيء أبدأ من ذكريات ذلك اليوم ؟! أأنهي إجراءات تسجيلها في سجل المواليد ؟
أم أنهي إجراءات تسجيل نفسي من جديد في سجل العيش السعيد ؟
لقد ملأتني حبًا وشغفًا وهيامًا كما لم تملأ فتاةٌ قلب أبيها مثلها..
إنه امتلاء ارتواء واكتفاء، فما عدت أتطلع إلى المزيد؛ إذ لا أعرف على ما أنا فيه من مزيد.
أعلم عن حب الآباء لأبنائهم،وأعلم كيف يلتهمون الأفئدة،وكيف يسحروننا بضحكاتهم وأصواتهم وحركاتهم،وأعلم كم يشغلون البال كلما مرض أحدهم بحمى أو نزلة برد،وأعلم كيف تدور القلوب حولهم كما لو أنها حولهم تطوف
أعلم كل هذا وأكثر،ولكن العنود فاقت كل ما أعلمه وما لا أعلمه عن حب الآباء لأبنائهم
هذه الفتاة الذكية السّاحرة الْتَهَمَتْ قلبي قضمةً قضمة..
إنها «نيوتن» روحي.. حين رأيتها أول مرة سقط قلبي من عنقوده عند قدميها، فالتقطته، ثم اكتشفَتْ سر الجاذبية التي تجعلني لا أجد الطمأنينة إلا حواليها.
في يوم ميلادك يا ملاكي العنود أعترف :
كم أنا مدينٌ لكِ، نعم أنا والدكِ المدين لك ولضحكاتكِ الناعمة التي تجدول قلبي مثل نهرٍ بارد، مدينٌ لكلماتك العذبة ولدلالكِ الأخاذ ..
آه يا بُنيتي لو تعرفين كم تسرّحين منّي وعنّي الهموم كلما ابتسمتِ.
ما أصدق من قال : إن البنات في البيت مثل نُدَف الغيوم، يظللنه رقةً ورحمةً وطمأنينةً، وما هكذا العنود فقط، بل هي أيضا نهر يجري في قلب أبيها أولا، وقلب أمها، وقلوب إخوتها، إنها عصفورة البيت، وبلبل الجنة، والبلسم الذي نَدَّخِره لنَزَلَات الحياة وأوجاعها.
في يوم ميلادك يا ملاكي ماذا عساي أن أكتب لكِ؟
هل أكتب لك عن الطفلة الساحرة التي جعلت من حياتي بستانًا أسرح فيه كيف أشاء ومتى أشاء،أم أكتب لكِ عن الفتاة المثقفة المملوءة شغفًا و ذكاءً ولباقة،ماذا عساي أن أخبرك عن مشاعري وأنا أراكِ بكل هذا الدلال والخلق والثقافة والوعي وخفّة الظّل
أسعفي أباك أو على الأقل أنصفيه من طوفان المشاعر هذا.
يوم ميلادك يا فتاتي هو يوم ميلادي الأول..
كل ميلاد جديد أُولَد من جديد، وفي فمي أعذب نشيد.. إنه النشيد الوطني للعصافير، والزهور ومواسم الربيع.
في مثل هذا اليوم انسكبت من السماء غيمة، وارتبك القمر، وترنمت العصافير، وتراقصت الورود احتفاءً بسيدة الورود، وأميرة الجمال والجلال والدلال.
إنها أم أبيها التي لم تبخل عليّ ولو لمرة بابتسامةٍ تبلسم بها الجروح، أو كلمةٍ تُهندِم الروح.
هذا اليوم أشعر وكأني علاء الدين أطوف العالم..
أحلّق عاليًا ومشاعري هي البساط.
يوم ميلادك يا فتاتي هو السيرة الشخصية للقمر، والبداية الفعلية للنور.
يقول الكاتب العراقي ميثم راضي :
«كانت أمي تقول لنا دائماً:اضحكوا في وجه أبيكم عندما يعود غدًا إلى البيت،فالعالم في الخارج مكانٌ موحشٌ وغدار يحطم الآباءَ مثل الأواني الفخارية …..
ويواصل القول :
وكنا نقف عند الباب ننتظر بابتسامتنا التي تشبه القوارب الصغيرة، وحالما يأتي أبي نبدأ بنقلهِ قطعةً بعد قطعةٍ بعد قطعة، ونَعبُر صوبَ أمي لتلصقه لنا من جديد».
كانت ولا زالت العنود وحدها تلصقني من جديد، وتبعث فيه الحياة، وتمنح كينونتي معنى.
أخبريني يا بُنيتي، ماذا يعني أن تكوني آخر العنقود، وماذا يعني أن تكوني أمًّا لأبيك، وماذا يعني أن يتشكّل العالم أمامي بكل أبعاده وأفراده ولا أرى سواك؟!
لا بدّ ثمة شيء لديكِ أيتها السّاحرة .
في وجودك يا بسمة الوجود لا يخيفني إلا شيء واحد.. هو تقصيري في شكر ربي على نِعمهِ الكثيره وعليكِ، فمهما شكرتُ لا ولن أفيه حقه عز وجلّ ، فما كنتِ منحة كسائر المنح، بل كنتِ الرحمات والبركات التي لا أحصي لها عَدّا، ولا أرى لها حَدّا.
لا أعرف الكثير في الطّبّ .
لكني أعرف أنك قطعة مني، وأن قلبي قطعة منك، فإن سَرَّكِ شيء ابتهجتُ سرورا، وإن تكدر بالكِ انقبض قلبي، وانكَبَّ بقبضته على وجه كَدَرك يحطمه تحطيما.
لا أعرف رقم يوم ميلادك، ولا أريد أن أعرف، الذي أعرفه أن كل يومٍ هو يومُ ميلاد لك يبدأ فيه عمري من جديد، فما أكاد أشيخ، ولا يشيب شَعري، ولا ينحني ظهري إلا لأشكر الله على نعمهِ الكثيرة و على العنود .
التعليقات