قبل ستين عاماً أو يزيد خرج شابٌّ في مقتبل العمر من قريته الصغيرة في قلب الصحراء.
هناك حيث يقتسم الناسُ النُّبلَ والطيبةَ والكرم كما تقتسم الطيورُ البذورَ كلَّ صباح، ويتبارَوْن في العطاء بمزيجٍ من اللّذّة والإيثار حُبّاً لبعضهم البعض، وإكراماً لذواتهم، وقبل ذلك احتسابا وحُبّاً لما عند الله.


خرج حالُه كحالِ الآخرين باتجاه الشرق بُعيْد اكتشاف النفط.. كانت الحياة لا تزال في صباحها المشرق، والمدينة ليست كما هي الآن.. البيوت صغيرة، والشوارع متلاصقة، والناس يعرفون بعضهم بعضاً كما لو أنهم عائلة واحدة.
استقرّ به الحال كما معظم الشباب في ذلك الوقت، والتحق بشركة أرامكو، ولم تكن أرامكو على ما هي عليه اليوم؛ فمعظم الكوادر فيها كانوا من الأجانب.. المجال جديد، والتحدي صعب، ولكن بعزيمة السعودي الأصيل، وبجسارة طبعه واجتهاده خاض المهمة وجاوز الصعاب.
كانت أيامه الأولى صعبة، فحاجز اللغة لم يكن سهلا، وكذلك حنينه إلى أهله: والده، وشقيقته الوحيدة، وإخوته، وكذلك حبه للقرية وأهلها أثقله ومزّق قلبه.
كان التحدّي صعبا.. فاستسلامه لعواطفه سيجعله يعود مهزوماً وفاشلاً أمام نفسه، وطموحاته، وأمام الآخرين.
حينما كان في القرية كان هو الأب الثاني في العائلة.. ينتظر الجميع عودته كما لو أنهم أطفاله.. عمل في كل شيءٍ تقريباً، وجرّب كلّ ما توفّر للقروي أن يعمل فيه، وخصوصاً في ما يتعلق بالزراعة آنذاك، وجل همّه كان ألا يعود نهاية اليوم بيدين فارغتين.
وحينما سنحت الفرصة أمامه بالعمل في أرامكو لم يُفَوِّتها، بل جدّ واجتهد وثابر، وهدفه أن يعود إلى أسرته وهو محمَّلٌ بالمستقبل السعيد.
عاش سنواته الأولى متحدياً نفسه، والغربة والحنين لوالده وعائلته.. أُعجِبَ به رؤساؤه في العمل، وكانوا يرون فيه القوي الأمين.
لم يحدث ولو لمرة أن كُلِّفَ بمهمة ولم ينجزها، وكذلك لم يحدث أن سُئل عن إمكانية إنجاز مهمة وأجاب بالنفي، حتى ولو لم يكن يعرف ماهيّتها.
إنها جسارة العربي، وهمّة الرجال الرجال!
كانت آماله عظيمة وطموحاته لم تكن له وحده، بل لعائلته وقريته.
بعد أن تَرَقَّتْ به الحياة سنحت له فرصة أفضل، وهي وظيفةٌ في سكّة الحديد بالظهران التي يسميها غازي القصيبي: «مدرسة الوزراء»؛ فكثيرون هم الوزراء الذين بدأوا حياتهم العملية من خلالها.
كان الشاب يرى الأمر كما لو أنه معركة.. ثابر في وظيفته الجديدة، وأثبت كفاءته ومهارته بشدة.
وكان يدّخر ما استطاع، حتى استطاع بفضل الله البيع والشراء في عقارات الدمام حينذاك، وحقّق نجاحاتٍ عدة، ومكاسب مالية لم يكن يتخيّلها.

وفي عزّ ازدهاره ونجاحاته فاجأه شقيقه الأكبر فهد غفر الله له ورحمه وأسكنه فسيح جناته بحضوره شخصيّاً طالباً منه العودة فوراً لمساعدته في المزرعة.
وكان أمراً لا طلبا، وكانت مكانة شقيقه فهد لديه ولدى الجميع تحتّم عليه الانصياع الفوري دون نقاش؛ فهو الشقيق الأكبر، والقدوة له، ولكل العائلة في كل الصفات.
وفعلاً بدأ تصفية أموره استعداداً للعودة بعد أن رزقه الله بطفلين هناك في الدمام: بنت، ثم ولد وأتقن الإنجليزية بطلاقة.
ودّع أحبابه هناك، وقفلَ راجعا، وبدأ في وظيفته الجديدة التي أمّنها له شقيقه الأكبر في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووافقت هوًى في نفسه؛ لأنه اختص بالضمان الاجتماعي للمحتاجين والأرامل والأيتام والمطلقات وذوي القدرات الخاصة، ووجد نفسه في هذا المجال لحبه للمساعدة.
لم يَشغله ذلك عن والده وأسرته وعن ابنه الأكبر الذي كان ينتظره كل ليلة بكتاب.. إمّا قصةٍ صغيرة أو كتاب مهم.


ومع مرور الأيام انتقل للفرع الجديد لنفسِ عمله في منطقة الخرج، ومثلما كان يفعل سِرّاً ها هو الآن يتلمس حاجات المساكين بطابعٍ رسمي علناً لدى أبناء منطقته وقريته.
كان نِعْم القوي الأمين.. همّه الأول والأخير أن يكفكف دموع المتعبين، وأن يبلسم أوجاع المساكين.
عاش في وظيفته الجديدة بروح القائد؛ فهو كثيراً ما يتجاوز المتطلبات الروتينية والتي تمنع أو تبطّئ استحقاق المعونات في سبيل أن يصل لأكبر قدر ممكن من المساكين؛ إذ كان بهم بَرّاً رحيما.
كان يهتم بأسرته كما يهتم بالمساكين، وعاش حياته من أجل مَن حوله، وكان المعيل لعدّة أسر في آنٍ واحد.. لا ينسى هذا، ولا يهمل احتياجات فلان، ولا يتجاهل ذاك، وعلى الرغم من انشغاله بهم كان كذلك منشغلاً بابنه الأكبر الذي كان يحتاجُ إلى عناية واهتمام أكبر نظراً لجسارته وربما تهوّره أو تسرّعه.
(وهذه حكايةٌ أخرى سأعود إليها لاحقا؛ لأنّ المعنيُّ بالابن الأكبر هو (أنا)، وحينما أعود لها، سأعود بالتفصيل فيما يخصني فقط دون ذكر أيٍّ كان صغيراً كان أو كبيراً قريباً أو بعيداً)؛ لأنّني هنا أتكلم عن سيّدي والدي وتاج رأسي وعزوتي وسندي بعد الله عز وجل.

مرت الحياة مثل غيمة تسبح وحيدةً في كبد السماء، وما إن انقضت الظهيرة حتى بدأت الغيمة تتلاشى.
لا غيمة تواصل الهطول مهما أوتيت من قوة إذ لا بد أن تجرفها الرياح، أو يخف، أو يجف مخزونها حتى لا تكاد ترى منها شيئاً.. تلك الغيمة هي وصفٌ وصورةٌ محكمة لأبي ووالدي شفاه الله وعافاه.

أكتب لكم الآن عن أبي وهو لا يعرف شيئاً الآن من هذا العالم.. تخيّلوا أن هذا البَرّ الرحيم الإنسان النبيل لا يعرف أنه كذلك، ولا يكاد يذكر من الماضي إلا ومضات من هناك من الذاكرة العميقة، أو الماضي السحيق، أما الحاضر فلا يكاد يذكر منه شيئاً تقريبا.

أي وجعٍ وأيُّ ألمٍ هو هذا النسيان «آل زهايمر»!
أن يعيش الإنسان بذاكرةٍ بيضاء.. وجوه الناس فيها مشوّشة.. أسماؤهم مبهمة.. عناوينهم لا تبدو واضحة.. كل ما فيها مشتَّت، ووحده وجهي يتشكل أمام ناظريه، وفي لحظةٍ ملائكية يناديني من وسط كل هذا النسيان لمن حوله: «وين خالد وين خالد...».

أتذكر حينها حينما يغضب مني في صغري وهو يبحثُ عنّي: «خويلد وينك يا خويلد؟».
آه يا أبي لو تعرف كم لوقع اسمي على لسانك من لذة وأنت تناديني.. أشعر أن السماء تدنو مني.. يحدثني القمر، والنجوم توشوش لي، والغيوم تراقب المشهد، والكون كله يترقّبني.. أبي رغم كل هذا النسيان ما زال يحفظني، ويسأل عني!


حين أهمُّ بالكتابة عن أبي أشعر بالضعف والعجز والارتباك حقّا! كيف لي أن أجمع هذه السماء بامتداداتها في نصٍّ صغير؟! كيف لي أن أخبر الناس عن أهل السماء وهم يعيشون على الأرض؟! وأشعر أيضاً بحرج اللغة التي ليس باستطاعتها أن تستوعب ما في نفسي من إحساس!

لا أدري من أين أبدأ.. قصصٌ تتزاحم.. هل أتكلم عن حبه للمساكين؟ أم عن حرصه على الصلاة؟ أم عن هَوَسِهِ بإكرام الضيف، وعدم التهاون في الحرص على الاسم والسّمعة الطيبة.
وقاعدته التي يرددها دائما: «إن لم تفعلِ الخير للناس فانتبه أن تؤذي أحدا»، وهي الأساس عنده عافاه الله مما به.

أبي أيها الرجل الشيخُ الوقور، ذو القلب النيّر، والابتسامة المشرقة، واليد المعطاء، والوجه الصبوح، نحيل الجسد، عظيم الإيمان.. بشاشة الصالحين تخالط بشاشة وجهك، فزاد الضياء ضياءً، وعظم الإيمان إحسانا.
في الكتابة عنك أشعر بالارتباك حقاً وبالعجز.. كيف لرجلٍ مثلي أن يطول السماء ليخبر الناس عنها.. انظروا كيف تبدو السماء من الأعلى.. شاهدوا كم هي جميلةٌ وساحرة.


سألت أمي عنك قبل مدةٍ قصيرة، فقالت بكل محبة:
والله يا خالد إن أباك طيلة حياته يتجاوز الأخطاء، ويكرم في العطاء، ويغفر الزلات.. عاش للآخرين، ونسي نفسه.. كان يَسعدُ بالآخرين.

أبي يا أول أمان في العالم.. تجوب هنهناتك وجداني مثل قُوّاتٍ لحفظ السلام.. كانت صلصلة مفاتيحك أعظم من أوركسترا موزارت وبيتهوفن.
أبي، ويسكت اللسان.. تتقافز الصور في مخيلتي، ثم أتذكّرك الآن.
يداك المتعبتان.. عيناك الغائرتان.. أخاديد الزمان في تجاعيد وجهك.. قلبك النابض بالمحبة والرحمة والإحسان.

أبي.. كنت لنا بعد أمان الله أماناً.. يدك وأنت تربّت بها على كتفي كانت تمنحني أرفع الأوسمة.. عيناك وأنت تنظر إليّ كلما حدثتك كانتا تطلقان كل قرائحي.. ما زلت أنظر للجبل الذي ألهمني حب القراءة والكتابة.. ما زالت أخاديد وجهك تحكي صراعاتك!

الكتابة عن الأب سحرٌ تامّ، ولها وقعٌ خاص على القلب والروح.
في النهاية يحضرني قول النبيل صالح العزاز رحمه الله:
«النبلاء، الفرسان، أبناء الصحراء وماء السماء، بوصلة الأخلاق البشرية، جرعة التوازن التي تحفظ للمجتمعات حيويتها واستقرارها، وجودهم مادة مطهرة تزيل من حياتنا آثام البشر من ذوي النفوس الضعيفة، هؤلاء هم حراس أحلامنا من الفجيعة».