لما خلق الله الخلق وهبهم منحتين: العطايا، والرضا.. منح معظم الناس العطايا، فهم يلهثون خلفها. يَسعدون إن نالوها،ويَسخطون إن فقدوها،أو كانت اقل مما يَأملون. بالمقابل..خَصَّ سبحانه صفوة خلقه بالرضا، فهم يَسعدون بالقليل والكثير، ويشكرون على الصغير والكبير…
إن غمرَتْهم العطايا فرحوا وأعطوا،وإن لم..فهم في حمدٍ وشكرٍ لله على ماهم فيه من نعم أخرى. إنهم في فرح متجدد، وإحساس دائم بالشكر. وما الرضا كما قيل إلا اكتفاء بالموجود مع ترك الشوق للمفقود،ولذا كانت القناعة خيرًا من الضراعة لما تحققه في النفس السوية من سمو إنساني …

إذ أنّ الطمع هو المايكروب الذي يفتك بخلايا الطمأنينة،ويحيلها إلى شقاء. وحسب الرضا أَثَرًا أنه يتيح لصاحبه الوقت الكافي ليتمتع بالحياة ولو قلَّتْ مكتسباته المادية، فبالرّضا لا فرق أبدًا بين كسرة خبز ووجبة فندقية، بل ربما تكون كسرة الخبز ألذ في فم الراضي من الكافيار في فم الساخط.

بالقليل من القناعة يمكن لأصغر الأشياء أن تغمرك بسعادة عرضها السماوات والأرض. يعلم أهل الرضا علما يقينيا أن القناعة عصا سحرية تُحَوِّل التراب إلى ذهب.. يعلمون هذا من واقع التجارب، لا من صفحات الكتب.

أن تكون شخصاً راضياً يعني أن تكتفي بما بمنحته الحياة لك،دون أن تتطلع إلى ما في أيدي الآخرين،أو تقارن نفسك بهم،لأنك إن فعلت فسوف تظلم نفسك؛إذ ستقارن نفسك بمن هو أعلى منك،لا بمن هو أقل منك. وليس الرضا أن تتواكل وتخنع وترض بالبؤس والفقر. الرضا أن تسعى وتسعى،وترضى بما يكتبه الله لك.
على المرء أن يدرك أن الرضا غايةُ الحمد والامتنان، ذاك هو الرضا الذي يملأ النفس طمأنينةً وهدوءًا، ويجعلها تنعم بالسلام، وتسمو عما يكبّلها من قيود النفس والهوى. الراضون هم أُناسٌ امتلأت قلوبهم بالقناعة، وأعينهم بالحمد، وأفئدتهم بما لديهم من فضل الله عما بأيدي غيرهم.

هم يعيشون حياتهم بكل ظروفها، بأفراحها وأتراحها، بفسيحها وضيقها، بعافيتها وسقمها. إن فتح الله عليهم لم ينسوا حق الله فيما وهبهم، ولا حق خلقه، وإن قُدِرَتْ عليهم أرزاقهم حمدوا الله على ما هم فيه، وتذكروا أن لديهم من النعيم الوفير ما يغنيهم عن الانشغال بما فُقد لهم أو منهم.

الراضون هم أحباب الله، وأحباب خلقه، فيهم المعروف ينمو مثل الأشجار العظيمة، للإحسان لديهم أماراتٌ بالبذل والعطاء، سواءً بالكلمة الطيبة، أو الوجه الصبوح، أو اليد المعطاء.

لا يعرفون للتذمر طريقًا، ولا للقنوط دربًا.. إن أُغلِقَ عليهم بابٌ تفتّحت لهم في السماء أبوابًا، وإن أحكم الدهر قبضته على أحدهم تسابق الكرام إليه نجدةً ومعونة بحبٍّ ولهفة …

للراضين سماتٌ … تعرفها في وجوههم وفي أحاديثهم، وفي نظراتهم.. تجدهم في المجالس ينشغلون بالحلول عن عرض المشاكل بأكثر من وجهة، ويهتمون بالإيجابيات عن السلبيات، لا يتذمرون ولا يُحبِطون . أحاديثهم الشهد، ومنطقهم السعد.

إن سألت راضيًا يومًا: ما هي القناعة؟ سيجيبك: ماذا تقصد؟ لأنه ببساطةٍ على سجيته لا يتظاهر، ولا يلتفت للقشور، وكذلك الراضون يفعلون، ولا يغرّهم المديح ولا ينفخ أوداجَهم الثناء، هم أحبّة الله في كل مكانٍ وزمان … بصيص الأمل في كل كربة، وفجر كل ضائقة وشمعة كل ظلمة.

ما رأيت راضيًا قط وإلا وكانت مفتحةً له الأبواب، ومرصوفةً له الدروب، ومقضيةً له الحاجات. إن الرضا من تمام الإيمان، لأنه إسلامٌ وتسليمٌ لأقدار الله الذي أمرنا الله عز وجل أن نؤمن بالقدر خيره وشره. والنفس كالطفل تُهذّب بالتربية، وتسوء بفرط العطاء والدلال،

وكما قال البوصيري: والنَّفْسُ كالطفلِ إن تُهْمِلْهُ شَبَّ على حُبِّ الرَّضَاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ فاصرِفْ هواها وَحاذِرْ أنْ تُوَلِّيَهُ إنَّ الهوى ما تَوَلَّى يُصْمِ أوْ يَصِمِ
إنك إن عودّت نفسك على الحمد في جميع أحوالك.. حلوها ومرّها، أبيضها وأسودها، حتى يصبح الحمد عادة لقلبك فسوف تجد أنك في أحلك الظروف حامد شاكر، وفي أقساها ستكون صابرًا ومحتسبًا، أما إن عودَت نفسك على السخط لن ترى منها إلا الجزع والتذمر والقنوط، وستحيا وتعيشُ ساخطا، وستموت ساخطا.

ردد دائمًا في سرّك وعلانيتك: اللهم قلبًا راضيًا مرضيّا، اللهم نفسًا حامدةً مطمئنة، اللهم أقدارًا ننعم بها، وتعيننا على الفوز برضاك والجنة إنك على كل شيءٍ قدير. لقد استشعر حكماء الشعوب فضائل الرضا، ودلوا عليها الناس، وعرفوا مساوئ السخط، وحذروا الناس منها.

يقول أحد متقدمي الشعراء العرب: أفادتني القناعةُ كُلَّ عِزٍّ وهل عزٌّ أعزُّ من القناعَةْ؟! فصيِّرْها لنَفْسِكَ رأسَ مالٍ وصَيِّرْ بَعْدَها التقوى بِضاعَةْ تَحُزْ رِبْحًا وتَغْنَى عن بخيلٍ وتَنْعَمُ في الجنانِ بصبرِ ساعَةْ

ومن مأثور أقوال محمد الغزالي: «إن كان تغيير المكروه بمقدورك، فالصبر عليه بلادة، والرضا به حمق» أي أن كان سخطك لن يغير شيئًا فتزمل بالرضا.
وللروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز: «السعادة والرضا أدوات تجميل عظيمة، وأدوات خادعة لحفظ مظهر الشباب»، وهو يشير إلى أثر الرضا في النفس، وانعكاسه حتى على المظهر.

ويقول رجل التحفيز الأمريكي توني جاسكينز : «أن تكون قنوعًا لا يعني أنك زاهد في الدنيا، بل يعني أنك ممتن لما معك، وصابر على ما أنت ساعٍ للحصول عليه».

وللإعلامية الشهيرة أوبرا وينفري : «عندما تكون شاكراً لما بين يديك سينتهي بك الأمر بحصولك على الكثير، أما إن ركزت على ما ليس لديك فسينتهي بك الأمر إلى لا شيء مطلقا».

ومن جميل مقولات زعيم الهند الروحي المهاتما غاندي: «الرجل يسعى لتحقيق خطته المثالية،ويتطلع لِلَّحظة التي يضاعف بها متطلباته اليومية،لكن السعادة الحقيقة له تكمن في الرضا» ومما أُثِرَ عن حكيم الصين القديم كونفوشيوس: «القناعة تجلب السعادة حتى في الفقر،والسخط يجلب الفقر حتى في الثروة»
وفي المأثور الصيني أيضا : «لن تسخط بسبب عدم امتلاكك حذاءً حين تقابل رجلا بلا قدمين».

ومهما يكن من أمر فإن الرضا سعادة مطلقة، وأعلم أن حظوظ الناس من الرضا متفاوتة، لكنك إن عرفت عظيم أثر هذه المنحة ستعرف كيف ترتشف سلافتها، وتعيش طمأنينتها بالقَدْر الذي تستطيع، قد تتعب أول الأمر، لكن ستجد نفسك الرابح الأكبر حين تستوي على قدميك، وتبدأ دروب الفلاح.

لو خَيَّروك بين جبل من ذهب، ونفحة من رضا، فاترك لهم جبل الذهب يقتتلون عليه، واغتنم نفحة الرضا، وعش معها في سهول من زبرجد، وتلال من لؤلؤ، وجبال من ذهب. ( السعادة إحساس … لا ألماس )