قبل نحو عقد من الآن، كانت الدول العربية جميعها تكاد تتفق على أن القضية الفلسطينية هي المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، وهذه بطبيعة الحال حقيقية ولم تسقط بعد بسبب عدم التوصل إلى تسوية نهائية عادلة للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ولكن الحاصل الآن أن مصادر تهديد الأمن والاستقرار الاقليمي قد تعددت وتنوعت؛ وياتي في مقدمتها خطر تنظيمات الارهاب وتفشي الميلشيات المدعومة من دول اقليمية لها خطط هيمنة توسعية على حساب الأمن القومي العربي، وتأتي إيران بطبيعة الحال في صدارة هذه الدول الداعمة للفوضى والصراع في بعض الدول مثل اليمن ولبنان، فضلاً عن تدخلها المباشر في دول أخرى مثل سوريا والعراق.
قبل أكثر من عقد من الآن، لم تكن الدول الوطنية في عالمنا العربي تعاني خطراً وجودياً كما هو حاصل منذ الفوضى والاضطرابات التي اجتاحت دول عربية عدة من عام 2011، وبالتالي فما حدث بالفعل في تلك الفترة جعل الخوف والقلق من مضاعفات انهيار الدولة الوطنية في العالم العربي يقفز إلى صدارة الاهتمامات، وبات الحفاظ على الدول وتماسكها يشغل حيزاً كبيراً من العواصم العربية، سواء تلك التي وقعت في براثن الفوضى بالفعل، أو تلك التي تلعب دوراً إطفائياً أو داعماً لمن كانوا هدفاً مباشراً لمخطط الفوضى المعروف إعلامياً بـ"الربيع العربي". وكل ماسبق لا يعني تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، التي لا تزال تعد القضية المركزية الأولى للأنظمة والشعوب العربية، بحكم موقع هذه القضية في الضمير والوعي الجمعي العربي، ولكن هذه الأهمية القصوى لا تتعارض مع بروز رؤى استراتيجية جديدة للتعاطي مع هذه القضية من خلال آليات أو بدائل أو منظور جديد بديلاً للآليات والسياسات التي سيطرت على العلاقات العربية ـ الاسرائيلية طيلة سنوات وعقود طويلة.
تعد اتفاقيات السلام الابراهيمي، التي وقعت خلال العام الماضي بين دول عربية عدة، في مقدمتها دولة الامارات نموذجاً واقعياً حياً على البديل الاستراتيجي المبتكر للجهود العقيمة التي خيمت على مسار العلاقات العربية الاسرائيلية منذ توقيع آخر اتفاقية سلام بين العرب واسرائيل، ولا غرابة أن يخرج هذا البديل من دولة الامارات لأسباب واعتبارات عدة في مقدمتها أن الامارات دولة غير تقليدية وتفكر في المستقبل دائماً بشكل استباقي، وقد حققت من خلال ذلك انجازات تنموية عديدة جعلت منها في نموذجاً ملهماً في توظيف الموارد الطبيعية والبشرية، كما نجحت ـ رغم الظروف العالمية الناجمة عن تفشي جائحة "كورونا" ـ في تحقيق قفزة نوعية على صعيد تحقيق أهدافها التنافسية، حيث تبوأت الدولة المرتبة العاشرة عالمياً في الترتيب العام كأفضل دول العالم في تقرير التنافسية الرقمية العالمية للعام 2021.
ما يهمنا هنا هو سؤال المستقبل: إلى اين تتجه العلاقات العربية الاسرائيلية، وهل تمضي اتفاقات السلام الابراهيمي في مسارها الذي يتوقعه بعض المراقبين، وأنا منهم، أم يتوقف قطار السلام عند محطة الرباط؟ وهنا يمكنني القول من دون مبالغة أن هناك عوامل عدة مؤثرة تدفع باتجاه التفاؤل بمستقبل السلام الابراهيمي في منطقتنا، أولها أن اسرائيل تبدي حرصاً سياسياً واضحاً على توسيع هذا المسار والتقدم فيه، وتسعى بالفعل إلى توقيع المزيد من اتفاقيات السلام مع عواصم عربية أخرى، ولكن نجاح هذا الجهد يستلزم أيضاً ـ للموضوعية ـ تفادي الوقوع في فخ التصعيد واثارة التوترات مع الجانب الفلسطيني، وهو مسار مضاد تدفع باتجاهه أطراف فلسطينية ودول غير عربية يعرفها الجميع. هناك أيضاً قناعة عواصم عربية عدة بالمسار الذي مضت فيه دولة الامارات وغيرها باعتباره الخيار الأكثر واقعية بما ينطوي عليه من عوائد استراتيجية مشتركة للقضية الفلسطينية وأيضا للدول والشعوب العربية والشعب الاسرائيلي على حد سواء، والمقصود هنا هو تذويب الجليد الذي يخيم على العلاقات جراء فترات الصراع الطويلة، وتدشين مرحلة بناء الثقة والتعاون المفيد للأطراف جميعها في المجالات كافة.
والحقيقة أن هناك الكثير من التغيرات الاستراتيجية التي تدفع باتجاه السلام بين العرب واسرائيل، في مقدمتها التحديات الجديدة التي تواجه الأمن القومي العربي، سواء من خلال تغول بعض القوى الاقليمية وسعيها للتوسع وتهديد سيادة بعض الدول العربية، أو من خلال تغير بعض المعادلات وأنماط التحالف الدولية بحكم اختلاف أولويات الولايات المتحدة واهتماماتها الاستراتيجية بدرجة تضعف مستوى التركيز الأمريكي على منطقة الشرق الأوسط.
ورغم ماسبق كله، لا يمكنني القول أن تطبيع العلاقات بين العرب واسرائيل بات موضع اتفاق عربي تام، فرغم الفوارق الملموسة بين المستويين الرسمي والشعبي في النظر إلى تلك المسألة، فإنه لا يمكن بالمقابل انكار حدوث حلحلة ايجابية في تلك النظرة لمصلحة تحقيق السلام والتفرغ للتنمية والتصدي لمصادر التهديد الأكثر إلحاحاً، وهذا كله لا ينفي مركزية القضية الفلسطينية ولا يقلل من أهميتها مطلقاً، ولذا فإن الكرة تبدو في أحيان كثيرة في الملعب الاسرائيلي، حيث يفترض من صانعي القرار سحب البساط من تحت أقدام المتاجرين بهذه القضية، ومنح العرب الرسميين حجة مقنعة للإقدام على مرحلة جديدة من مراحل السلام الابراهيمي، وذلك من خلال إعادة النظر في السياسات الاسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني من جهة، والدفع باتجاه البحث عن حلول وتسويات نهائية للصراع مع الفلسطينيين من جهة ثانية.
- آخر تحديث :
التعليقات