بعد أكثر من شهر على تصريحاته المرتبطة بحرب اليمن يقدم وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي استقالته من الحكومة ليلحق بوزير الخارجية السابق شربل وهبة الذي استقال بعد "زوبعة" تصريحاته التي ألمح فيها لدور خليجي بتمويل تنظيم داعش وخروجه عن اللياقة الدبلوماسية بوصفه أهل الخليج بـ"أهل البدو".

استقالة قرداحي مثلها مثل استقالة شربل وهبة ليست أكثر من تكتيك لتبريد الأزمة باعتباره مدخلاً للحوار مع دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية على أمل حلحلة التوتر الحاصل وفك العزلة التي فُرضت خليجياً على بيروت.

السياسيون اللبنانيون أمام تحدٍ كبير والرهان على فك الاشتباك عبر الرمي بورقة الاستقالة رهان خاسر، ومحاولة التعامل مع الأمر بذات السياق الذي جرى إبان تصريحات وهبة محاولة قاصرة النظر، وستُعقد الموضوع بدلاً من حلحلته، فالمشكلة تكمُن في إلى أين تتجه الدولة، وإلى أي من المحاور الإقليمية تنتمي؟ أو على الأقل تبني سياسة "النأي بالنفس" بشكل حقيقي وفعلي لا مجرد تصريحات إعلامية، وإن كانت هذه السياسة من شبه المستحيلات في ظل الارتباط العضوي لحزب الله مع إيران.

خطوة قرداحي اليوم ستبقى منزوعة الدسم إذا لم تكُن ضمن سياق أوسع يعالج شواغل الدول الخليجية وعلى رأسها وقف تشكيل "الخلايا النائمة" وسحب القائم منها، والامتناع عن لعب دور الوكيل المشاكس، والتوقف عن التدخل في اليمن ودعم جماعة الحوثي، وإنهاء حرب المخدرات التي تهدف إلى إغراق الدول الخليجية بهذه الأفة القاتلة، وقبل لكل ذلك الذهاب نحو المدنية الفعلية وأن يكون السلاح سلاح دولة لا سلاح مليشيات.

مشكلة لبنان الرئيسية لم تكُن يوماً في أخطاء فردية لوزير أو رئيس وزراء بل في توجه الدولة وقدرتها على فك الارتباط العضوي بين قرارتها وتوجهاتها وبين أجندات دول خارجية وتحديداً الارتباط بين حزب الله وطهران، إذ لطالما كانت بيروت مجرد ورقة يتم التلويح بها على رقعة اللعب الإقليمية كلما ضاق الخناق على إيران، ووكيل لسياسة تصدير الثورة كلما وجدت طهران الظروف مواتية لذلك.

والمشكلة الأخرى التي تنخر في عضد الدولة اللبنانية هي مشكلة كافة التيارات السياسية، التي لا ترى في الدولة مظلة لها، فالكل يحاور ويفاوض ويقرر التوجهات، والدولة أخر مَن يعلم، ومصلحة اللبنانيين في مهب الريح، فمَن يحاور بنفس حزبي وطائفي لن تكون مصلحة لبنان وشعبه ضمن أولوياته، فهو من حيث المبدأ يرى حزبه أكبر من لبنان.

لبنان لم يعُد يقوى على هذا التشظي والتشتت السياسي الذي يعيشه منذ عقود، وبقائه بيدقاً بيد الأخرين، سيكون طريقاً مختصراً نحو الفشل التام، والعودة إلى مربع لا يتمناه أحد، والإرهاصات الداخلية والخارجية كلها تشير إلى هذا المربع طال الزمن أم قصر إذا لم ينتبه الجميع إلى بلدهم قبل فوات الأوان.

المكونات السياسية اللبنانية كافة عليها اليوم أن تلتقط اللحظة في ظل الانفتاح الإقليمي بين جميع دول المنطقة، فطهران وجيرانها منفتحون على بعض في الحوار والبحث في القضايا الخلافية، وإن كان هذا الانفتاح بمستويات مختلفة إلا أن الإشارة موجود واللحظة مناسبة، فكما تسعى طهران إلى إيجاد قنوات حوار ومصالح مشتركة مع جيرانها على ساسة لبنان التفكير بمصير دولتهم، وقراءة الواقع الجيوسياسي للمنطقة بعيداً عن الإملاءات الخارجية، فأولاً وأخيراً لا متضرر غير اللبناني البسيط.

بالمحصلة فإن استقالة جورج قرداحي لا تسمن ولا تغني من جوع إن كانت على منوال استقالة شربل وهبة، فالمشكلة باختصار ليست تصريحات عبثية بل هي العبثية بذاتها إن لم يكُن لبنان سيد نفسه.