لا يمكن أن تمرّ بين أروقة المباني التاريخية في جامعة هارفارد العريقة في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية دون أن تستوقفك تلك اللوحة البرونزية، المُلصقة على نصب تذكاري حجري كبير وُضِع عند مفترق الطرق في وسط ساحة كلية الحقوق و التي تقول: "تكريمًا للمُستَعبَدين الذين أدّى كَدّهم لخلق ثروة، جعلت من المُمكن تأسيس كلية هارفارد للحقوق، وبمناسبة ذكراهم نرجو اتباع أعلى مثل القانون والعدالة".

اثناء وجودي في الجامعة خلال زيارتي الفصل الدراسي المنصرم والتي كانت من اجل الاطلاع على بعض المراجع البحثية، تمّ الإعلان عن اعتماد موافقة مؤسسة هارفارد الأم على شعار جديد لكلية الحقوق في الجامعة. خبرٌ كاد ان يمرّ عاديًّا بالنسبة لي اسوة بكمية الاخبار التي تصدر يوميًّا ويتمّ الاعلان عنها في جامعة من الصعب الاحاطة بكل تفاصيل أخبارها، ولكنه استرعى انتباهي لاسيما وأن تغيير ختم الكلية يستتبعه اجراءات كثيرة من جهة كما انه قرار يتعلق بهوّية الجامعة ويرمز الى عراقتها كواحدة من أقدم الجامعات وأولها في الولايات المتحدة.

وَيَعود تأسيس تلك الكلية عَقبَ إنشاء "قسم القانون" في الجامعة عام 1817، لذلك فهي تُعَدّ أقدم كلية قانون تعمل باستمرار في الولايات المتحدّة، وهي الكلية التي خرّجت عدد لا حصر له من رجالات الحقوق والقادة والقانونيين والسياسيين وبعض رؤساء العالم وكبار المشرعيين الدوليين في الولايات المتحدة وفي الأمم المتحدة وحول العالم منهم ثمانية رؤساء أمريكيين، و188 مليارديرًا، و79 حائزًا على جائزة نوبل وغيرهم كثير من أصحاب النفوذ.

وبالعودة الى انطلاقة كلية الحقوق حينها فقد جاءت بتمويل من تركَة مالك العبيد الثريّ إسحاق رويال جونيور Isaac Royall Jr، حَيثُ قَدّم الثروة وعائدات حقول السكر التي كان يعمل بها العبيد الأفارقة في أبشع الظروف، والتي كان يملكها في جزيرة أنتيغوا إضافة الى ايرادات مزارعه في ولاية ماساشوستس.

حيثُ أوصَى قبيل وفاته بالتبرع بألف فَدّان من الأراضي في الولاية لصالح جامعة هارفارد ومن ثمّ خصصت ادارة الكلية العائدات المتأتيّة من تلك الأموال لإنشاء كرسي رويال Royall لأستاذية القانون حينها (وأُلغيت فيما بعد) والتي سُميَّت باسم عائلته وهي من اكبر العائلات البريطانية المستعمِرة التي امتهنت تجارة الرقيق واستوطنت القارة الأميركية لاسيما في الشمال الشرقي التي أطلقوا عليها "نيوانجلند New England".

بل وان شعار عائلة رويال الذي يُظهر ثلاث حزم قمح مكدّسة على خلفية زرقاء، كان جزء من شعار كليّة الحقوق والذي تعلوه كلمة شعار الجامعة وهي Veritas وهي كلمة لاتينية تعني الحقيقة. هذا الأمر فتح باب النقد على مصراعيه لاسيما خلال العقد الأخير، فبعدَ مرور أكثر من قرنَين على تأسيس الكلية، تجددت الأصوات الطلابيّة والحقوقية والأساتذة وعَلت المطالبَة بضرورة إجراء نقد ذاتيّ شفَّاف واعترافٍ وَاضح واتخاذ خطوات عملية.

ففي عام 2016، صوتت الهيئة الإدارية للجامعة على ضرورة إلغاء رموز عائلة رويال ودلالاتها الواضحة على العبودية والرّق - وهو ما يتنافى بشكل صارخ مع أهداف الكلية المعلنة بتحقيق العدالة - فبعد بحث دام ستة سنوات، تبيّن انّ معظم الخريجين وأعضاء هيئة التدريس في ذلك الوقت لم يكونوا مدركين لأصول الختم المعمول به والرموز الموسومة فيه. وقد حسم الامر في اغسطس الماضي بالاعلان عن اعتماد شعار جديد. حيث تم الابقاء على كلمة Veritas، ويستقر فوق العبارة اللاتينية Lex et Iustitia، والتي تعني "القانون والعدالة".

ويحاول القيمون على كليّة الحقوق اعادة تقييم الماضي والاعتراف بما حدث والخروج من قوقعة الاخفاء الى العلن وتغيير ما يمكن تغييره، وهذه بطبيعة الحال نقطة تميّز المجتمع الاميركي الذي لا يتوانى عن الاعتراف بماضيه "المخجل" وإدانة نفسه من اجل الانطلاق الى قيم اكثر انسانيّة ورُقيًّا، وهنا اقتبس كلمة رئيسة الجامعة السابقة درو فاوست Catharine Drew Gilpin Faust والتي قالت حين ازيح الستار عن اللوحة التذكارية في عام 2017 وكانت لا تزال رئيسة الجامعة حينها، ما معناه: "أن العبودية هي جانب من جوانب ماضي هارفارد الذي نادراً ما يتم الاعتراف به وأن قصص مساهمات المنحدرين من أصل أفريقي وحضورهم في جامعة هارفارد تُركت في الغالب دون سرد. وانه يجب علينا تغيير هذا الواقع. كما نعترف هنا اليوم، لقد كانت جامعة هارفارد إلى جانب العديد من المؤسسات الأخرى في نيو إنجلاند متواطئة بشكل مباشر في نظام العبودية العرقيّة في أمريكا... هذا الاحتفال الذي يذكرنا بأن الطريق نحو العدالة ليس سلسًا ولا مستقيمًا".

اما عميد كلية الحقوق جون إف مانينغ John F. Manning فيقول حول الموضوع: "لكي نكون صادقين مع تاريخنا المعقد ، يجب علينا أيضًا تسليط الضوء على ما لا نفخر به" معتبرًا ان افضل طريقة للتغيير هي في "العمل على سن القوانيين، وفي جميع أنحاء العالم، كأداة للحرية والمساواة والديمقراطية والكرامة الإنسانية".

أخيرا، خلال اعوامٍ عديدة جلت فيها دول متطورة عدة واطلعت فيها على كبرى المراكز الاكاديمية والبحثية المعنية بالحضارة الانسانية في العالم وبوصفي مهتمة بحقوق الانسان وبالجانب الحضاري والاجتماعي للعلاقات بين شعوب الأرض للوصول الى عالم أقلّ عنفًا وكراهية وأكثر عدالة وانصافًا، وجدت أنّه لا يمكن ان نتطور ونتقدم ما لم نقرّ بأخطاءنا الحضارية ونتجاوزها، وأولى الخطوات تكون في المراجعات النقدية الحقيقية والعميقة التي لا تستهدف جلد الذات بل من اجل القفز إلى أفق أرحب ننعتق فيه من أسر ما نخجل منه او نخفيه.

ولعل أولى أوليات تحقيق التطور والازدهار لدولنا العربية البائسة هو الخروج من دائرة تمجيد الماضي، والاعتراف بأخطاءنا الحضارية العميقة والكف عن تفريخ "الزعماء الآلهة".. فالاعتراف بالخطأ ليس فضيلة وحسب بل أساس لا بد منه لبناء مستقبل أفضل.