مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هذه الأثناء، لا بد وأن نعود إلى الأسباب التمهيدية التي فوضّت صانع القرار في روسيا لاجتياح أوكرانيا عسكريا. ومثل هذه الأسباب الممهدّة عادة ما تكون في مجملها أسبابا تاريخية لها ارتباط باللغة والدين. وعوضا عن أن روسيا تخشى انضمام الأوكرانيين للناتو، وتبني قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها مما يهدد الجوار الروسي، فإن دوافع الامتعاض الروسي منذ العام 1991 يكمن في العديد من الأسباب التي تحثّه على التدخل العسكري وإعادة ضم أوكرانيا سياسيا عبر حكومة شرقية موالية كما حدث في بيلاروسيا.

وهذه العوالق التاريخية بين الدول عادة ما تكون كفيلة بحدوث الاضطرابات السياسية إذا ما نتج عنها تفرقة معنوية للشعوب المتوحدة لغويا وثقافيا. وفي التاريخ سوف يعثر الباحث على مئات الأدلة حول قدرة اللغة والهوية في إحداث الاضطرابات السياسية، لكن ولسبب ما مع الأزمة الأوكرانية، فسوف نعثر على أقرب الأمثلة تاريخيا في دور اللغة والهوية في الانقسام السياسي والشعوبي؛ حيث نجد أن دول البلقان وتحديدا صربيا وسلوفاكيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك هم شعوب يعودون لجذر واحد من القبائل السلافية التي انحدرت من السهول الأوربية واستوطنت جبال البلقان في القرن السادس عشر. وتاريخيا، فقد انضمت شعوب البلقان بالقوة إلى العثمانيين في أواخر التسعينات من القرن الخامس عشر ليدوم البلقان تحت حكم الدولة العثمانية قرابة 400 عام حتى خسرها العثمانيون بعد حروب تسمى بالحروب الروسية العثمانية كان أهمها في عام 1882، وعند ذلك قامت الإمبراطورية الهنغارية النمساوية آنذاك بضم شعوب البلقان عدا صربيا في أوائل التسعينات من القرن التاسع عشر. ولأن شعوب البلقان كانت متوحدة لغويا وثقافيا فقد قامت الحركات القومية التي تدعو للانفصال عن الإمبراطورية الهنغارية النمساوية بدعم صربي بمحاولات ثورية تدعو لإحياء قومية القبائل السلافية؛ إلى أن قام شاب صربي في العام 1914 باغتيال ولي العهد النمساوي لتندلع حينها شرارة الحرب العالمية الأولى، ولتتوحد القبائل السلافية من جديد بعد انتهاء الحرب إثر قيام مملكة يوغسلافيا وتفكك الإمبراطورية الهنغارية النمساوية، وما تبع ذلك من ويلات الحرب العالمية الأولى.

اليوم يعيد التاريخ نفسه مع القبائل السلافية، وهي قبائل متناثرة كانت تعيش في سهول أوربا الشرقية بين بحر البلطيق والبحر الأسود، وكانت هذه القبائل تختص بالرعي والصيد ولم تترك أثرا ملموسا للباحثين عن تاريخها، ولكنه يعود تشكلها النوعي إلى القرن الخامس والسادس من الميلاد وهم سلاف غربيون وشرقيون وجنوبيون. أما الشرقيون وعاصمتهم إمارة كييف التي هي الآن عاصمة أوكرانيا فهم سلافيون سكنوا المناطق فيما يعرف حاليا بأوكرانيا وغرب روسيا وبيلاروسيا، وهم الذين انتشر على يديهم المذهب الأرثوذكسي المسيحي. وبعد توطد حكم السلافيين في كييف اندمج معهم الإفرنج وهم القبائل الجرمانية وتشكل من هذا الاندماج العرقي عرق "روس" ثم انتقلت الإمارة من كييف إلى موسكو بعد أن تأسست دوقية موسكو في القرن الثالث عشر والذي أدى تدريجيا لنقل عاصمة السلافيين من كييف إلى موسكو في القرن السادس عشر تحت حكم القيصر إيفان الرابع.

واليوم؛ نجد الرئيس بوتين حاضرا في تاريخ السلافيين وأمجاد السابق، فهو يشير باللغة دوما إلى وحدة السلافيين. كيف لا وشعار روسيا الاتحادية الذي يطل خلفه في خطابه الأخير يشير لذلك، فالتيجان الثلاثة التي تقبع على رأس النسر ذو الرأسين في شعار روسيا الاتحادية كانت ترمز قديما للأمل والإيمان والحب، ولكن وعند توحد الشعوب السلافية في عام 1620 عُرفت حينها بأنها تشير إلى وحدة الأمة الروسية والأمة البيلاروسية والأمة الأوكرانية. وفي مقالة كتبها الرئيس بوتين عن أوكرانيا نشرت على موقع الكرملين بتاريخ 21 جولاي 2021, يتحدث بوتين فيها عن التاريخ المشترك بين الروس والأوكرانيين، فيقول "الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون جميعهم من نسل روس القديمة، التي كانت أكبر دولة في أوروبا. كانت القبائل السلافية وغيرها عبر المنطقة الشاسعة من لادوجا ونوفغورود وبسكوف إلى كييف وتشرنيغوف مرتبطة معًا بلغة واحدة (والتي نشير إليها الآن باسم الروسية القديمة)" وللتنويه فإن اللغة السلافية الشرقية القديمة التي يقصدها بويتن في خطابه هي لغة القبائل السلافية بين القرنين الخامس والعاشر بحسب المؤرخين. لكن السؤال يبقى لماذا يشير بوتين دوما إلى وحدة اللغة بين الروس والأوكرانيين؟ إن الإجابة يمكن أن تتمثل باختصار في قومية اللغة، فهي هوية يجب بنظره أن تكون كرتا سياسيا يوحد الموقف والجهود المشتركة. وفي خطابه المتلفز الأخير قبيل إعلان العملية العسكرية في يوم 21 فبراير 2022، وجه بوتين خطابا إلى الشعب الروسي أعلن فيه اعترافه باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك مضيفا "إلى أن الحال وصل في أوكرانيا إلى أن الذين يتحدثون اللغة الروسية يتم مضايقتهم!" في إشارة إلى الخوف من تمييع الهوية اللغوية إزاء الاحتضان الغربي. وعلى كل؛ فإن هذه المقالة تذهب للقول بأن الأسباب الرئيسية للعملية العسكرية هي سياسية بحتة نتيجة الخطر الذي تشعر به روسيا من إزاء الاحتضان الغربي لأوكرانيا، حيث ضم الناتو سابقا لحلفه دول البلطيق وهي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا وكان ذلك مثل الخنجر في ظهر الدب الروسي؛ وعليه فلا يمكن القبول بانضمام أوكرانيا. وفي المجمل؛ فإن الموقف الروسي الحالي كسب الاعتراف باستقلال إقليمين في أوكرانيا بالإضافة لشبه جزيرة القرم، وهي خطوة كبيرة أدرجها بوتين بذكاء ضمن أجندة إعادة الميول الشرقية لأوكرانيا، وبحسب بعض المحللين الغربيين، فربما يمكن لاتفاق يضمن بعدم انضمام أوكرانيا للناتو خلال الخمسين عاما القادمة أن يعيد الموقف إلى الهدوء. وختاما: فإن الاعتراف الأحادي باستقلال أقاليم خاضعة لدولة مستقلة يشكل تهديدا للسلم العالمي، إذ قد يفتح الباب كما صرح السيناتور ليندسي غراهام أمام دول مثل إيران للقيام بخطوات مشابهة، وبالتالي تسنح الفرصة لأن تغيب الضمانات على احترام المواثيق الدولية، ويبقى منطق القوة هو الفيصل.