ربما من أكثر الأمور التي باتت تستفز الرأي العام في العراق هو ذلك الغباء الممزوج بالتغافل الذي يصدح به حديث السياسيين وتعلو به كلماتهم وهم يُجاهرون بالقول أن الوضع السياسي في العراق لم يبلغ مرحلة الإقتتال الشيعي-الشيعي وكأن ما يحدث في البلد هو مجرد إختلاف رأي بمباراة كرة قدم، أو شجار عائلي بسبب شيطنة طفل متهور.

كلا يا سادة.. إن ما يحدث في العراق هو خلاف شيعي- شيعي يُنذر بما لايُحمد عقباه، بدأت كرة الثلج بالتدحرج وتكبر شيئاً فشيئاً حتى بات يُخشى أن حجمها يدوس الجميع.

أصبح لهذا الخلاف أدواته وفرقائه ومناصريه وإستوطن في قلاع حصينة يتبادل القوم فيما بينهم أنواع السِهام وحمم النار.

توافقية أم أغلبية؟ مقدمات عناوين يسعى فريقان في العراق إلى بلورة المشهد السياسي القادم الذي أنتجته إنتخابات تشرين، وأن تتحكم به البوصلة السياسية في حكومة أغلبية التي يسعى لها تحالف (مقتدى الصدر- مسعود بارزاني- محمد الحلبوسي) أو توافقية كما يُريدها الإطار التنسيقي الشيعي بقيادة نوري المالكي وشركائه من بعض الكُرد والسنة، لكن يبدو أن العراق سينطبق عليه ذلك المثل الشعبي (طلّعها من حلك السبع.. خشّت(دخلت) في بطن الواوي) وهو مثل يُضرب في خسارة كل شيء، حيث أن المأزق الذي دخل فيه المشهد السياسي العراقي ربما سيُرسم له نهايات سوداء وخواتيم سياسات حمقاء أوجدها الإحتلال الأمريكي لهذا البلد ودأبت عليه منظومة سياسية لم تجد غير مصالحها ومكاسبها ومنافعها مبررات للعمل السياسي دون الإكتراث لمصالح الشعب ومعاناته.

تحوّل الشعب إلى قرابين تُذبح إرضاءً لنزوات طائشة أو مغامرات سياسية يدفع العراقيون ثمنها من حياتهم ومعيشتهم إلى درجة أن القرف والإشمئزاز لم يدع أي مجال أو منحى في الحياة إلا وإستأثر به.

ما تحدّث به حاكم الزاملي نائب رئيس البرلمان العراقي من أن عدم إنتخاب رئيس الجمهورية في جلسة البرلمان الأربعاء القادم تعني الذهاب إلى حكومة طوارئ، وهو تفسير لم يجد له الدستور العراقي المعنى الواضح لهذه الحكومة أو توضيح الآلية التي من الممكن إتخاذها في حال تخطي المدد الدستورية لإنتخاب رئيس الجمهورية دون التوصل إلى نتيجة، إذ لم يدر ببال المُشرّع العراقي الذي كتب بنود الدستور بمباركة المحتل ويضع فقراته أن العراق بهذا الموقف الصعب والمحرج الذي ربما يُخرج الأمور إلى الأوضاع المأزومة خصوصاً بعد هذا الخرق الدستوري الفاضح الذي لا زالت مُصرّة عليه الطبقة السياسية في المراوحة والمراوغة بأنتخاب رئيسيّ الجمهورية والوزراء.

المطالبون بحكم الأغلبية والتوافقية عُميت الأبصار عنهم إلى درجة أن الصورة لم تعد بألوانها الواضحة لديهم، فما يحدث حولهم من متغيرات سياسية وإقليمية ستجعل كرة الثلج تلك تدفنهم حيث لن يكون بإستطاعتهم إيجاد الحلول لصدّ هذه الكرة سوى مزيداً من التنافر والتخالف وصراع المصالح والمنافع.

أنظروا حولكم إلى دول جوار العراق في سوريا حيث زيارة بشار الأسد إلى الإمارات وذلك التحدي من الطرفين لأمريكا وبداية صفحات سياسية وإقتصادية جديدة لذلك البلد وإستعادة دوره في المنظومة العربية، وتلك الزيارة التي قام بها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى تركيا ومحاولات الإتفاق لإيجاد حليف جديد في المنطقة بعد أن شعرت إسرائيل أن حليفها الإستراتيجي أمريكا لم تعد بتلك القوة التي يُعتمد عليها.

تمعّنوا في ما يحدث من الإتفاق النووي وإحتمالية رفع القيود عن طهران وعودتها إلى خارطة الخليج العربي بدور الشرطي.

وبعد كل هذه الأحداث هل إستوعب هؤلاء الساسة في العراق الدرس الأمريكي لأفغانستان عندما تركت أسلحتها ومعداتها وجواسيسها فرائس سهلة تلتهمها قوات طالبان؟.

لعبة الدومينو التي بدأت قِطعها تسقط الواحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى العراق الذي لا تُدرك منظومته السياسية أنها جزء من هذه اللعبة، ولم يعد سراً أن المتغيرات الجيوسياسية باتت تقترب كالإعصار المُدّمر الذي يأخذ في طريقه كل شيء، لكن المصيبة أن ساسة العراق ما زالوا يأملون أن تأثير العاصفة لن يطالهم وأنهم بأمان عما يحدث وما زالوا لا يشعرون أنهم باتوا في منتصف الإعصار.. وذلك هو الغباء السياسي الذي نخشاه على مستقبل العراق وشعبه.