"علينا أن نكون واقعيين، قد تستمر الحرب لفترة طويلة، لأشهر وحتى لسنوات. لذلك علينا أن نكون مستعدين لمسار طويل، من حيث تقديم الدعم لأوكرانيا والاستمرار في العقوبات وتعزيز دفاعاتنا". بهذه العبارات أجاب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ينس ستولتنبرغ، عن تساؤل حول موعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. مضيفًا "لم نر أي مؤشر يدل على أن بوتين غيّر هدفه بالسيطرة على كل أوكرانيا".

ولعل الجملة الأهم في حديثه حين قال: "لقد طلبنا من القادة العسكريين تقديم خيارات للقادة السياسيين حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات لإعادة ضبط قدرة الدفاع والردع للتحالف".

إذن فإن توصيات "العسكر" هي التي ستوّجه مسارات الديبلوماسية والتحالفات الدولية لا العكس، في المرحلة المقبلة، وبذلك تنتهي المرحلة التي شهدت فيها أوروبا انفتاحًا، وتلاشت أيضًا تلك الأصوات التي كانت تدعو إلى كوكب خالٍ من "اسلحة الدمار الشامل". كما أن سلوك الحكومات يوحي بقدر لا يرقى للشك بأن إدارة الهيمنة وتوزيع الأدوار هو المسيطر على الدبلوماسية بين الدول، وبالتالي فإن دعوات انهاء النزاع والتسويتات المزعومة لا تعدو عن فصل في مسرحية توزيع السيطرة، واعادة اقتسام الكعكة من جديد.

فعقب ولادة الاتحاد الاوروبي اثرسقوط جدار برلين تنامت التساؤلات حول التغيير في المشهد الإستراتيجي الدولي، حيث وجدت الحكومات - لا سيما الاوروبية منها - نفسها مجبرة على إعادة تعريف الرهانات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية لخياراتها المتخَذة في مجال الدفاع، حيث كان هناك توجه عام ينادي بضرورة التخلي عن فكرة "الردع النووي" لحماية "الأمن القومي"، وكانت أصوات العديد من المفكرين والحقوقيين في أوروبا حينها تتجه نحو تبني أفكار أكثر انفتاحًا وتعاونًا؛ فأتت هذه الحرب الروسية على أوكرانيا لتعيد الكثيرين إلى المربع الأول، ولتعزز التطرف في العقائد الدفاعية التي تعتبر أن "الردع النووي" هو الضمان الأخير ضد تهديد المصالح الحيويّة وأنه عامل مهم في الحفاظ على السلام في العالم.

كما أن الراصد للاتهامات المتبادلة بين الساسة الاوروبيين و الروس في الآونة الأخيرة، يجد انّهم يتحدثون بشكل لا يخلو من التشويش حول الحاجة الى بناء نظام متعدد الأطراف او الأقطاب مستخدمين المصطلحين بشكل مترادف، علمًا ان الطرف كمدلول مغاير عن القطبية.

إن الاشكالية الفكرية المتعلقة عند كل الأطراف المتنازعة الآن، عقب اندلاع هذه الحرب، لا زالت كما كانت، تتمحور حول عدة محاور أهمها: محور المفاهيم المتداولة حول السيطرة وادارة النفوذ، ومحور السياسات الخارجية ومسار ديبلوماسيتها، محور غياب الرؤية الانسانية في العلاقات الدولية.

وعليه فإن الدول الكبرى في العالم أمام أربع خيارات لتحديد المسارات التي تسعى لها: فهل ستتجه الدول نحو نهج أحادي في نسق دولي أحادي القطب، ام سيسعى بعضها الى نهجٍ متعدد الأطراف في نسق دولي أحادي القطب، أم ستتوجه الى نهج أحادي الجانب في نسق دولي متعدد الأقطاب، واخيرا هل بالامكان اعتماد نهج متعدد الأطراف في نسق دولي متعدد الأقطاب.

ان المراقب المتتبع للجدل الحاصل بين صناع القرار والأكاديميين حول ما إذا كان وجود عالم أكثر تعددية مرغوبًا فيه، يخلص الى أن جلّ ما يمكن التوافق حوله هو تصوّر منهج فعّال متعدد الاطراف. وفيما نجد أن كثيرون يؤرخون مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بولادة النظام العالمي الجديد رابطين بإحكام مبرم بين النهج الأميركي الأحادي الجانب وعملية بروز الأحادية القطبية في السياسة الدولية.

فإنه يمكن القول ان هذا الربط يشكل في حقيقته تحريفًا للسجل الفعلي للعلاقات الدولية، خصوصًا في مرحلة بداية التسعينيات، إذ ان القطبية كمفهوم خاص يتعلق بِمستوى النظام يرتبط بتوزيع مراكز القِوى من جهة والقوّة من جهة اخرى، اما المنهج الأحادي الجانب فهو متعلق بالسياسات التي تتبناها الدول ضمن نظام دولي أعد سلفًا .

وفيما يرى العسكريون ان توازن الرعب النووي ضرورة ملحة، نجدهم في الوقت عينه عاجزون عن تقديم السيناريوهات الاستراتيجية لجهة خطورة الاستخدام. فمن غير المنطقي المجازفة بتدمير النفس في سبيل الدفاع عنها، والكارثة محققة إذا تحكّم غير العقلاء في تكنولوحية مدمرة كتلك.

انّ معظم السياسيون كما العسكريون ينظرون الى قضايا الدفاع بوصفها تكنولوجية بحتة، متغاضين عن كافة الاعتبارات الأخرى والتداعيات البالغة السوء التي تطال الانسان كما سائر الكائنات، وهم يتناولون شؤون الدفاع والأمن وفق مبادئ كتل النفوذ وتوازن القوى عبر الفراغ السياسي، وكلها مبادئ تضع الإنسان في محور آلة الرعب ودائرتها. هذا التفكير العسكري التقليدي السائد يعتبر أن خير حل للنزاعات يتمثل في التدخل التكنولوجي ولا يأخذ بالحسبان الكمون الذاتي التنظيم للناس والأمم.

أما السياسيون فإنهم يتغاضون عن علل النزاع وأسبابه الحقيقية، مركزين بدلاً من ذلك على السيرورات الخارجية، متجاهلين العنف المؤسَّسي المنظَّم الخفي الذي يشرفون عليه بأنفسهم.

إن غالبية السياسيين الساحقة و- للأسف - تتعامل من هذا المنطلق أنه بوسعنا أن نزيد من أمننا الذاتي بأن نجعل الآخرين يحسون بعدم الأمن. ولَمَّا كانت التهديدات التي تقوم بها أسلحة اليوم النووية تنذر بإبادة الحياة على الكوكب، فإن التفكير الجديد حول السلام يجب أن يكون بالضرورة تفكيراً شاملاً. لقد ولَّى زمان مفهوم الأمن القومي برمَّته في العصر النووي، ولم يعد في الوسع الآن القبول بأقل من الأمن العالمي المشترك.

ويبقى السؤال الأخطر في هذه المرحلة هو: هل ستصبح الحرب أداةً مقبولة للسياسة الخارجية للدول من جديد؟ وهل سنشهد عودة "امبرطوريات" تسعى لأن تحشد خلفها شعوبًا خائفة ومبغضة يستبد بهم الخوف والتهديد وعدم الأمان؟

ربما نحتاج إلى قراءة كوكبنا الأرضي وتفاعلنا معه بشكل يتجاوز كلّ القراءات السابقة، تكون قراءة متكاملة قائمة على المعرفة العلمية من جهة، وعلى الواقع من جهة دون إغفال العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية للشعوب، و يقوم على ركيزة أنه لا يمكن ان نحقق الأمن إذا سلبنا الآخرين منه، وان "الخصم" يحتاج لأن يكون في أمان بقدر ما نحتاج، وانه لا بد من ايجاد حلول بديلة تضمن المصالح الحيوية وتأمين الدفاع بوسائل لا تنطوي على خطر تدمير أنفسنا معًا.