عوراتُنا هي الأنثى في جريمةِ اغتصابٍ…
يُعمدُ إلى كَمِّ فمِها، إطفاءِ عينيها، صَلْبِ ذراعيها، طمِّ جسَدِها تحتَ أثقالِ الغريزةِ الهائجةِ، وتُستنزفُ منها الروحُ شيئًا فشيئًا، ولا تُتركُ إلاَّ لِمَصيرِها الذي سيقَعُ بين أنيابِ الكواسرِ الماجنةِ، العطشى للنَّميمةِ والتَّباهي بِشَرفٍ لا تملكُه والمحاضرةِ بحريَّةٍ لا تُتقِنُ مفاهيمها...

مصيرٌ تَسْتحِيلُ معها هذه الأنثى روحًا معذَّبة، تجول الأرضَ التي منها نبتَت، وإليها انتمَتْ؛ تبحثُ لها في الدغلِ عن مُستقرّ، فالمدَّعون خافوا أنْ ينطِقوا باِسمها، والخاطئون لوّنوا حكاياتها بكلماتٍ نمّقوها وزيّنوها لتبعثَ في الحُضَّارِ القشعريرةَ، حتى صارَتْ بينَ النّاسِ هي الهمسُ الذي عنه يتحدَّثون، والطامةُ الكبرى التي يُعمون أبصارَهُم عنْهَا، ويتعامُون...


يجرِّحون رَحِمَها بأَلْف خطيئة وخطيئة، والحرامَ إلى الطفلِ المولودِ فيه ينسبون، متغافلين عمدًا عن أنَّهم هم من غرز وأوجدَ وسمَّى الفعلَ بغير مسمياته حتى تحوَّل الشبحُ إلى أشباح، والخطيئةُ عورةً لذَّتها في نُكرانِها، سوسًا ينْخُرُ في الأخلاقِ العِظامَ، علَقَةً تجفِّفُ في المجتمعِ الدماءَ، انفجارًا يهدِّدُ الحُرَّةَ بالدمارِ، وعارًا يَسِمُ الحُرَّ بالفجور والردَّة والزندقة...
عوراتُنا هي الأنثى التي نطمِرها تحت مسمَّياتٍ عدَّة؛ مرّة بِحجَّةِ الحلالِ والحرامِ، ومرَّة بحجَّةِ العيبِ واحترامِ الموروثِ والتقاليدِ، ومرَّة بِحَّجةِ محاربةِ الفسادِ الواردِ لِهَدِمِ مجتمعاتِنَا وتقويضِ أخلاقِنِا... والحقيقة أنَّنا نخشى مِنْ مواجهةِ المرآة...

نخشى الوقوف أمام حقائقِنا، إعلاءَ أصواتِ نقائضِنا، وصراخِ تناقضِنا، وأصداءِ ادعاءاتِنا امتلاكَ الرفعةِ في الأخلاق، والتَّرفُّعِ عنِ المزالق، والتتريبِ على دَرْبِ المحامد، ليكون في المتقدِّم مثلٌ لمن سيتَّبعُ الأثر، ويمشي على الدرب التي قيل إنَّها وحدها الخلاصُ... والحقيقةُ أننا مجتمعٌ يخشى مواجهة المرآة...
نعلِّلُ النفس بأنَّنا أصحابُ الشرقِ الأصيلِ في مواجهةِ الغربِ الفاسدِ، الشرقِ المحافظِ في مواجهةِ الغرب المتفلِّت، الشرقِ الذي يغار على العِرض في مواجهة الغرب الذي يستبيحُه... والحقيقة أنَّهم لا يخشَوْنَ المرآة ونحنُ نخاف من مواجهة المرآة...

نرتعبُ مِنَ الانعكاسِ الذي سنراه في نقائِها الذي لا يعرفُ فنونَ الرياءِ، نرتعشُ، نضطربُ، نتقلَّبُ بين جمرٍ وألمٍ أدركَنَا ولم ندركْهُ إلاَّ في أقنعةٍ أسبغنَاها عليه، تلوكُنُا أنيابُ ذئابٍ نَسَجَتْ عبر سنواتِ عمرِنا عَبْرَ القرونِ نُظُمَ الطَّمْرِ الذي يتَسَلَّطُ على الفكرِ والإبداعِ والحقيقةِ والمحبةِ والإنسانِ...
طَمَرُوا الصوتَ الذي يَأْبى الغلطَ وقالوا إنَّه ليسَ مِنْ شيمِنَا ولا مِنْ أخلاقِنَا ولا مِنْ عاداتِنَا...
أنْ نكذبَ، أنْ نغتصبَ، أنْ نسرقَ، أنْ نُصاحبَ الفجورَ، أنْ نظْلِمَ، أنْ نعتدِي، أنْ نأكُلَ مالَ اليتيم، أنْ نُصادرَ الفِكْرَ، أنْ نَسجُنَ الرأيَ، أنْ نستبيحَ الأرضَ، أنْ نعيثَ في الأفئدَةِ مجونًا، قالوا إنَّه ليس منَّا... وهل يجوزُ أنْ يُزهِرَ العدلُ جَورًا؟؟؟

طمروا الصوتَ، واغتالوا القلمَ، وحدُّوا العقولَ حتى تلك التي تقولُ بِالنورِ الذي لو أنصَتَتْ وأجالَتْ برأسِهَا بعيدًا عَنِ المسارِ المحدَّدِ لتمكَّنَتْ مِنَ التمييزِ بينَ النُّورينِ، النورِ الصادر مِنْ قنديلٍ تَسقيهِ أياديهم وغرائزُهم بِزيتٍ يعصرونَهُ في خوابيهِم، والنورِ المنبَعِثِ مِنْ نفسِهِ الكائِنِ بكونِه والمتَّقِدِ بِالعقلِ والحريّةِ والمحبةِ وحكمةِ الكلمةِ والرأي اليقينِ...

طمروا الصوتَ ليمنعوا عَنِ الداء ِالدواءَ، وعَنِ الجروحِ الخياطةَ، وعَنِ الأخاديدِ الرأْبَ، وعَنِ الغرائزِ العقلَ، وعَنِ القيودِ مفاتيحَها، وعَنِ التقدُّمِ سبيلَه، وعَنِ الارتقاءِ معراجَه...
طمروا الصوتَ ليتركوا الفارسَ الأصيلَ في كبوتِه، مترجِّلاً عن فرسِه، يجري خلفَ فريستِه كالأسدِ الخائبِ المذعورِ، غير مُدرِكٍ لحقيقتِه...

جعلوا من عوراتِنَا أنثى في جريمةِ اغتصابٍ لِتكونَ هي الطرفَ الأضعفَ، هي الضحيةَ التي لا يُسمَحُ لها بأنْ تطفو إلى السطحِ، بأنْ تُعلنَ عن نفسِها، بأنْ تصدحَ بأعلى صوتِها للمحاسبةِ، للمعالجةِ، لمحو التكاذُبِ والتزلُّفِ والادِّعاءِ والتَّمظهرِ خلْفَ أقنعةِ إيمانٍ وتقوى وشرفٍ لا يُتقِنُون حتى تعريفه أو تحديد ماهيَّته...

طمروا الصوت... فجرّدوا الشرق من مضمونه، وساقوه في تخلُّفه، وسَقَوْهُ الخمرَ مُرًّا ثُمَّ قالوا إنَّه مُنكر بعد أنْ رتع الشرقُ في مستنقع يتخبَّط فيه بين ظاهر طاهر ومضمون عاهر... وقدْ كُمَّ فيه الفمُ والفكرُ؛ وبعد أنْ جعلوا العورة هي الأنثى في جريمة اغتصاب، أسقطوا الجريمة ووضعوا بعد «الأنثى» نقطة...