في ذكرى عبقرية فذّة، في مسار مهني يخصني ويخص الدائرة الأوسع، وهي الصحافة، لا زلت أذكر لحظة اتصاله الهاتفي بي وأنا في مكتبي محررا في وكالة "يونايتدبرس انترناشيونال" في مقر تلفزيون "أم بي سي" في لندن، للانضمام للزلزال غير المسبوق في بلاط الصحافة العربية.

في 21 مايو 2001، كان السبق المهني الرائد، متناغما مع تكنولوجيات العصر في إعلام رقمي في الهدف والمضمون والمحتوى والطموح، كانت خزينة عثمان العمير كعادتها، عامرة بالمفاجآت، فكانت "إيلاف" سابقة عصرها، عبر الأثير، وكانت زلزالا حقيقيا كان حديث العالم العربي من الماء إلى الماء.

لم يسبق لصحيفة أو وسيلة إعلامية عربية كانت أو عالمية، أن نالت ردة فعل مدوية منذ انطلاقتها الأولى كما نالت "إيلاف"، وها هي تستمر منبراً عربياً ليبرالياً منيراً ساطع الحقيقة في مواجهة عالم يلفه الظلام والرعب، عصياً متجبراً متشدداً بعنت وقهر في التعاطي مع الحريات والمعرفة والفكر المستنير، تسيّدته أنظمة وأدوات قهر مستبدة في مصير الشعوب، مدعومة بتجبر واستكبار من عصابات المتشددين الظلاميين وأئمة الكراهية أعداء الرأي والرأي الآخر والانفتاح والشفافية والإنسانية سواء بسواء، فكانت لـ"إيلاف" معاركها ومواجهاتها التي ظلت تنتصر فيها على الدوام.

وإذ من حق "إيلاف" ومن حق القراء والمتابعين علي أن أذكر محطات سريعة مباشرة كنت أنا حاضرا عليها في ردة فعل كثيرين من قادة وزعماء واعميين وسياسيين عن "إيلاف" وتأثيرها عبر السنين.

في أحد الأعوام، زرت عمّان وكان لي لقاء في الديوان الملكي الهاشمي مع أحد مستشاري العاهل الهاشمي الملك عبدالله الثاني الذي دهشت وأنا أدخل مكتبه حين رأيت شاشة عريضة تتصدرها "إيلا")، فبادر المستشار وهو الراحل عقل بلتاجي للقول: "لعلمك أخي نصر، مقل هذه الشاشة ليست في مكتبي فقط، بل بتوجيهات من جلالة الملك، موجودة في غالبية مكاتب موظفي الديوان الملكي، فحلالته مهتم جدا بما تنشره ايلاف على اثيرها وكم هو راغب أن ننجز تجربة اردنية مثل "إيلاف"".

المناسبة الثانية، كانت في عام 2004، حين التقيت مع حشد من المشاركين في منتدى الاعلام العربي مع الشيخ الراحل الحكيم الإنساني صباح الأحمد، وكان رئيسا للوزراء، فما ان صافحته، بعد أن قدمني له الزميل ماضي الخميس رئيس المنتدى، عانقني الشيخ مبتسما كعادته، وقال: "إيلاف هذه مفضّلتي على الإنترنت ومصدري الإخباري".

وفي عام 2005، كنت مدعوا مع عدد من الزملاء من وزارة الخارجية الأميركية للمشاركة في مناقشات وندوات عن العراق، وخلال أحد اللقاء مع أحد مستشار البيت الأبيض الإعلاميين، فوجئت بأنه يسألني عن قصة كنا فجرناها في "إيلاف" عن الجامعة العربية بزعامة عمر موسي، وكان يهم المستشار تفاصيل تلك القصة وكيف ان عمرو موسى يهيمن على قرار الجامعة العربية كما يهيمن أي باشا مصري من النوع التقليدي القديم على ضيعته!

من محاسن الصدف أنني في ذلك العام التقيت بالسيد عمر موسى في البحر الميت على هامش لمنتدى دافوس، وكم كان عمرو موسى رجلا واسع الصدر وبادرني بمزحة بابتسامة: أهلا أهلا في أعدائنا الأعزاء، إزاي أخونا عثمان العمير ارجو أن توصله كل التحيات ومغفور لم انت يا نصر "ما كتبت".

كما لا أنسى المعركة مع العقيد الليبي معمر القذافي في عام 2003، إذ بلغت حد التهديدات من جانب حاكم الجماهيرية، وهنا استحضر اتصال احد دبلوماسييه في لندن معي ليهدأ التصعيد، بالقول: العقيد ابلغني أن أتصل بك لأقول لعثمان العمير وانت أن التهديدات ن تبلغ حد القتل، فانتما بدويان والعقيد يعتز ببداوته!

قبل ذلك، اشتبكت "إيلاف" مع الراحل ياسر عرفات، وكان أن وجهة شبكة (سي إن إن) الأميركية خلال مقابلة لها معي عن أسباب هذه المواجهة التي كانت انتقادات "إيلاف" لأداء عرفات واستفراده بالقرار الفلسطيني.

هنا لا بد أن أشير إلى أن "إيلاف" كانت خاضت معركة مع القيادة الفلسطينية، حين اعتقلت رجل الأعمال والسياسي الفلسطيني الراحل جويد الغضين، رئيس الصندوق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية باتهامات لم يثبت لها أي أساس من الصحة، وواصلت دورها المهني في تلك القضة بالتفاصيل عبر تقارير وأخبار ومقابلات الى أن تم تحرير الغصين من احتجازه ووصوله إلى لندن عبر عملية استخبارية مشتركة شاركت فيها أطراف عربية غربية تعترف بمدى الظلم الذي وقع على الغضين الرجل السياسي الهادئ المتوازن الموزون في مواقفه.

إلى ذلك، بالنسبة لي كنت غادرت "إيلاف" في عام 2006، لنحو سنوات ست بعد أن أطلقت منافستها ورصيفتها "آرام" التي أعلنت توقفها لظروف لا داعي لشرحها في هذا المجال، وعدت لحضن "إيلاف" مجددا بعد اتصال هاتفي من الزميل عثمان العمير، وكان أقصر اتصال هاتفي بين اثنين حيث قال: متى أول تقرير منك؟، قلت غدا.. فأغلق الخط، وكانت العودة في عام 2012 إلى هذه اللحظة.

للتذكير، العمير زميل تاريخي امتدت علاقاتنا لعقود لندنية مثيرة، وقد عملت معه لسنوات مديرا لتحرير صحيفة "الشرق الأوسط" حين كان رئيسا لتحريرها.

عثمان العمير هنئيا للصحافة بك، وهنيئا لك بها فقد رفعتها إلى آفاق غير مسبوقة وبهمة عالية لا تلين..!