أدخل إلى عامي الجديد بقلبٍ أبيض، وفؤادٍ أبيض، وبرايةٍ بيضاء.
سنواتٌ مرّت عشتُ فيها الحياة بحلوها ومرها.. بيسرها وعسرها.. بحلاوة أفراحها، ومرارة أتراحها.. كنت فيها مثل قاربٍ صغير لا حول لي فيها ولا قوة..

تهدهدني الأيام والمواقف والعواصف والخيبات.
كانت أمي بقلبها المبسوط نحو السماء تضيء لي الدروب في أشد مواقف حياتي ظلمةً وكدرا.. كنت أسمع صوتها يخترق الظلمة والعواصف، ويهمس في أذن السماء: يا رب ولدي يا رب ولدي، فتنقشع ظلمتي، وتشرق سمائي.


في حياتي كنت أسير في ظلال أبي،ظلاله الأول حيث كان كلما قام بمعروف، صنع لي به ظلاًّ ألوذ به من صروف الحياة.. عاش بسيرةٍ طاهرة،ويدٍ كريمة وروحٍ لا تقبل رذائل الأمور، تعلمت من أبي أن المروءة عزيزة لا يطولها إلا الأوفياء،وأن العطاء نافذة نفتحها في السماء؛ لتعرج عبرها دعواتنا كل حين.
أدخل عامي الجديد، ويدور شريط حياتي أمامي.. طفلٌ صغيرٌ لا يعرف من العالم سوى حدود قريته الصغيرة، وجملة صور بلا أسماء، وبيوت من طين، ونخيل شامخات، وبئرٌ متهالكة، وأطلال مدرسة.
وجوهٌ تفتش عن أسمائها في دفاتري القديمة، أخوةٌ لي على قائمة الانتظار ....
أحلامٌ لا تتعدى كُرَةً نتسابق عليها مع بقية الأطفال، بقالةٌ مهترئة في طرف القرية تتفوق برحابتها على أفسح متاجر اليوم.

حين أغمض عيني وأغوص في ذكرياتي القديمة أعود بالزمن نحو الماضي، أبلسم كف أبي، أكوي بقبلاتي تجاعيد الزمان عليها، أعسعسُ الليل في نهار شيباته،
وقبل أن نعود معاً أهمس في أذنه بصوتي القديم: «أبي»، فيلتفت لي ويحتضنني: «ولدي خويلد».. يكون صوتي مثل من يشعل ضوءاً في غرفة ذاكرته المظلمة، حين أغمض عيني أمسك بكف أمي أقبلها، احتضنها، وأخضبها بالحناء، وأصنع ضفيرتين لها، ثم نعود معاً إلى حيث كنا،
أحياناً يسعفني الحظ في العودة بالزمن إلى أن نصل إلى قريتنا، وأحياناً تنتهي الرحلة ونحن في الطريق قبل الوصول، فأكون حين أغمض عيني كمن حبس أنفاسه تحت الماء لثوانٍ معدودات، ثم رفع رأسه مسرعاً ليلتقط أنفاسه.
تشعبت الدروب في حياتي، وتلونت بعض الوجوه التي كنت أحسبها ذخراً للزمن وللحياة والعمر، ولكنها كانت أقصر مما تبدو عليه، كما كانت للبعض الآخر ندرةً وجمالاً يضاهي الذهب والألماس.

تعلمت في حياتي أن أتمسك فيها بمن يستحق، وأن النبيل ليس مغفلا، والشجاع ليس بأحمق، وأن الكريم ما كان بالساذج، وأن الفضائل لا تتجزأ.
في حياتي دروسٌ كثيرة، ومواقفُ جمّة، وأناسٌ مرّوا.. منهم من ترك أثره في أعماقي كالبساتين كلما هبت رياح ذكراه أتت برائحةْ عطرة، ونسماتٍ باردة،
ومنهم من هم على الضفة الأخرى من ذاكرتي من لم يترك خلفه إلا الحرائق،فلا تنبعث من ذكراه إلا رائحة الدخان،هذا الجزء من ذاكرتي نتن الرائحة ولاتنبعث منه إلا الذكريات المريرة واللحظات السوداء والآلام العميقة التي حفرتها تلك الأحداث وأصحابها وأبطالها في أخاديد روحي ندوبًا سوداء لاتُمحى

أدخل عامي الجديد في خير شهور الله،صائماً عن كل ما يحطُّ من إيمان المؤمن وقدره وأخلاقه،وأدعو العلي البر الرحيم أن يجعل أعوامي القادمة خيراً لي ولأهل بيتي وناسي وصحبتي ووطني،وأن يكتب لي فيها من الثواب والخيرات خيراً مما أمضيت،وأن يعينني على ذلك.