دع القلوب في أماكنها..

محبة الأوطان فطرة في الكائنات الحية، حتى النبات لا ينمو ولا يزهر إلا في مواطنه، وما كانت هجرة الطيور وهجرة قطعان الحيوان إلا صراعاً أبديا بين طلب العيش والعودة إلى الوطن.
ن كان هذا الحال مع من لا يعقل من نبات وحيوان فكيف هو الأمر مع الإنسان المفعم بالعقل والمشاعر.
لقد أدركت البشرية في وقت مبكر قداسة المكان، وحرمة الأوطان، فذادت عنها، وقاتلت دونها، وأرخصت في سبيلها الأرواح والأموال، وما زال أقل الناس منزلة ونُبلا هو أقلهم حبا لوطنه واعتزازا به،

وما استبشع الخلق خيانة كخيانة الوطن، ولا احتقروا أحدا كبائع وطنه مهما غلا ثمن البيع!
وكان العرب من قديم الزمان يعرفون أهل النبل والفضل بمحبتهم للأوطان، وقد جاء في كتاب «العقد الفريد» عن بعض أهل الحكمة: يُعْرَف أهلُ الوفاء بحنينهم إلى الأوطان.
إنّ تعلق العربي بوطنه ليس تعلقًا عاديًا، الأمر يتعدى مرحلة النشأة والبناء والنمو، إنه أسمى من ذلك بكثير.. إنه يمثل العرض والشرف والرفعة والانتماء.
وما زال كرام الناس يفخرون بأوطانهم، ويتباهون بمحبتها، والذود عنها،
ما قرأت سيرة عظيم أو نبيل قط إلا وكان الوطن فخرَه ومجدَه ونقطة ضعفه التي يبدو أمامها وادعاً مهما كانت قوّته وجبروته.
وأكرم الخلق وأشرفهم نبينها العظيم ﷺ ضرب أروع الأمثلة في حبه لوطنه مكة، وحنينه الدائم لها حين هاجر عنها.


لقد أحب رسولُ الله ﷺ وطنه مكة، وكانت فكرة البعد عنها تؤذيه قبل أن يُبعِد، وحين أخبره ورقة بن نوفل أن قومه سيخرجونه منها قال وكله حسرة وألم: «أوَ مُخرِجِيّ هُمْ؟!» رواه البخاري.
وحين خرج ﷺ منها متجهاً إلى المدينة الْتَفَتَ إلى مكة، وقال: «أنتِ أحبُّ البلادِ إلى اللهِ، وأنتِ أحبُّ البلادِ إليَّ، ولولا المشركونَ أهلُكِ أخرجوني لماَ خرجتُ منكِ» رواه الترمذي، وصححهالألباني .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً اسمه أُصَيْل وفد على رسول اللهﷺمن مكة، فسألهﷺ:«يا أُصَيْل،كيَف عَهِدتَ مكة؟»
قال:واللهِ عهدتُها قد أَخصب جَنابُها،وابيَّضَتْ بطحاؤها،وأَعْذق إذْخِرُها،وأُسْلِتَ ثُمامُها، وأَمَشَّ سَلَمُها.
قال ﷺ:«حَسْبُكَ يا أصَيْلُ لا تُحْزِنّا!»أخرجه الأزرقي
وفي«الإكمال» يرُوي عنه ﷺ:«وِيهاً يا أُصَيْل،دع القلوبَ تَقَرّ قَرارَها»


إنها آهة محب وفيّ مشتاق لوطنه لا ريب.
وقيل لأعرابي:كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ؟قال:يمشي أحدنا مِيلا،فيَرْفَضّ عَرَقا،ثم يَنصب عصاه،ويُلقي عليها كِساءه،ويَجلس فيه يكتالُ الريح،فكأنه في إيوان كسرى
لقد وجد الأعرابي في صحراء وطنه وحَرُورها جنة كجنات كسرى ذات الماء والظلال والنسائم الباردة.
إن لم يكن هذا هو الحب فما الحب إذَنْ؟

يؤمن العربي أن للوطن عليه حقّا، وأن حريته لا تكتمل إلا بالوفاء لوطنه،
وفي مثل هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

وللأوطانِ في دمِ كلِّ حُرٍّ
يَدٌ سَلَفَتْ ودَيْنٌ مُسْتَحَقُّ

الوطن هو التاريخ والحاضر.. عبق الأجداد، وتطلع الأبناء، ومستقبل الأحفاد، مخطِئ من يظن أن أعلى قمة في العالم هي قمة إفرست.. ربما صَحَّ ذلك في حسابات الجغرافيا، غير أنه في حسابات الوجدان لا قمة تعلو على قمة الوطن!
باللهِ عليك ياقارئي العزيز ..
أخبرني ما أو من يكون الإنسان دون وطن؟
ألا ترى أنه يكون في أشد الحالات يتمًا وتشردًا وضعفًا، أليس الوطن هو الأم الحنون التي تحنو على صغارها دون أن تفرق بينهم، أو تتذمر ولو مرة واحدة، الأوطان تمثل للإنسان الشريف كل معاني السمو والشموخ.
قديمًا تَغنّى الشعراء بحب أوطانهم، وخلدوها في معلقاتهم وقصائدهم، وكما عاشوا هم في أوطانهم، عاشت أوطانهم في وجدانهم وقصائدهم.
ومهما شاخ المرء يظل حبه للوطن فَتِيّاً لا يشيخ، بل إنه كلما شاخ ازداد تعلقا به،

وكان بعض العرب إذا سافر عن وطنه حمل معه قبضة من تراب وطنه يشمها في غربته كلما اشتد به الحنين أو المرض، وأحدهم يحمل كِسَراً من حطب صحراء بلاده من السمر والأرطى، وإذا اشتد به الحنين في غربته تبخر بها، واستنشق عبق وطنه، فيهدأ حنينه، وينقشع ما كان فيه من ضعف.
ليس خيالا ولا مبالغة
الحديث عن الوطن ذو شجون،ولدى الأوفياء حكايات عن حبهم له كأنها أساطير
وأبرز ما جعل لشعر العرب قيمة سمو مضمونه،وأسمى مضامينه وقوفهم على الأطلال وتذكر الأوطان وماضي الزمان
كانوا يقفون بكل شموخهم،ويبكون على الديار بكاء الصغار،فما يزيدهم البكاء إلا شموخاً على شموخ
بكاء الشامخين على الذكرى الشامخة هو الشموخ بعينه،

قال امرؤ القيس:

قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقْطِ اللِّوَى بينَ الدَّخُولِ فحَوملِ

فتُوضِحَ فالمِقْرَاةِ لمْ يَعْفُ رسمُها
لِمَا نَسَجَتْها مِن جَنوبٍ وشَمألِ
ويقول الصِّمَّة القشيري في نجد:

أقولُ لصاحبي والعيسُ تهوي
بنا بَين المُنِيفةِ فالضِّمارِ

تمتَّعْ من شَمِيمِ عَرَار نَجْدٍ
فما بعدَ العشّيةِ من عَرَارِ

ألا يا حبّذا نفحاتُ نَجدٍ
وريَّا روضِهِ غِبَّ القِطارِ

وقال الشريف الرضي وقد مر على دياره وديار أحبابه:

ولَقَد مَرَرتُ عَلى دِيارِهِمُ

وطُلولُها بِيَدِ البِلى نَهْبُ

وَتَلَفَّتَتْ عَيني فَمُذ خَفِيَتْ

عَنها الطُّلولُ تَلَفَّتَ القَلْبُ

ولم يزل الحنين للأوطان يُزَيّن الشعر العربي القديم والحديث، ويحرك مشاعر جياشة من المحبة والشوق والأصالة.

وللأمير الفاتح عبدالرحمن الداخل أبيات عذبة قالها وهو في أقصى الأرض مشتاقاً إلى وطنه:

أيها الراكبُ الميمِّمُ أرضي
أَقْرِ من بعضيَ السلامَ لبعضي

إن جسمي كما علمتَ بأرضٍ
وفؤادي ومالكيهِ بأرضِ

قُدِّرَ البينُ بيننا فافترقنا
وطوى البينُ عن جفونيَ غمضي

قد قضى اللهُ بالفراقِ علينا
فعسى باجتماعِنا سوف يقضي
رغم إمارته والْتفاف الدنيا والناس عليه لم يستطع نسيان ماضيه وأهليه، إذ لو لم يَحِنّ إلى وطنه لما كان جديراً بالمجد، فما من عظيم إلا ومحبة الوطن في روحه فطرة لا تقبل المساومة.
قفلة:
ولي وطنٌ يَجري دماً في شراييني
أموتُ ببعدي عنه، والقربُ يُحْييني
هو الجنةُ الأولى وُلِدتُ بها فتى
ويا ليتَ فيها يومُ دفني وتَكْفيني
إذا ما الغِنَى أغوَى رِجالاً فقبضةٌ
من الرملِ من صحراءِ قوميَ تَكْفين