شعبوية مفرطة ومبالغ فيها تتبعها معظم الأحزاب والتيارات السياسية الصاعدة في العراق وكوردستان، ومن كثر التمادي والانخراط فيها والتمسك بها ووضع حدود فاصلة يوتوبياوية والمناداة بشعارات خيالية رنانة وسقف مطالب يفوق المعقول، يصعب عليها العودة مجددا إلى ممارسة تعاملاتها السياسية مع التيارات المختلفة على أرض الواقع، فلا هي تتمكن من استغلال الدعم الجماهيري وتحقيق ما تدعو إليه من قيم ومباديء غير واقيعة صعبة المنال، ولا هي بمقدورها العودة وتحمل مسؤولية المساهمة في الحكم أو إنجاز أمر ما مع الآخرين، وإذا حدث ذلك فإنها ستخسر الكثير نظرا لحجم التناقض الذي ستقع فيه وقد ينقلب سحر الشعبوية عليها ويضعها في موقع الدفاع بعد أن كان مهاجما شرسا لا يوقفه شيء.
ويشهد التاريخ القريب لكثير من الحركات والتيارات السياسية الفتية في العراق وإقليم كوردستان لاسيما ما بعد 2003 على أنها لم تحسن قراءة الوضع ولم تجد التعامل معه بمنطقية وبعد نظر، فحين كانت في عز صعودها وذروة اكتسابها الدعم الشعبي أساءت التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي وبدأت برفع سقف مطالبها اعتمادا على مفاهيم يستسيغها العامة، واضعة حدا وراسمة خطا فاصلا ليس من السهل التراجع عنه ومتجاهلة من هم على الطرف الآخر وما يتمتعون به من دعم شعبي ومؤسساتي مشفوعا بتاريخ نضالي موروث يجعلهم في خانة حصينة معظم الأحيان، فتصطدم الرغبة الشعبوية الجامحة بسد منيع من الحنكة السياسية والقدرة العالية على إدارة الأزمات والصمود في الجهة المقابلة، فتواجه هذه (الرغبة) انتكاسة تعجز على أثرها عن تحقيق تقدم وتجد نفسها أمام تناقض يمنعها من الانخراط مع من عادتهم حتى النخاع وإن حدث وتمكنت من ذلك فستفقد السحر الذي استغلت بها سذاجة العامة وعلى نياتهم وتضيع ورقتها للضغط ووسيلتها للمضي إلى الأمام.
فثورة التشرينيين وتجربتهم في العراق منذ عام 2019 ليست ببعيدة كمثال راسخ على هذا التصادم بين دعوات ومطالب غير واقيعة مرفوعة السقف وبين الرجوع للتعاطي مع الوضع السياسي الراهن وضرب كل ما مضى عرض الحائط، فكانت النتيجة خسارة الدعم المكتسب من المد الشعبي والظهور بصورة متراجع لم يف بتعهداته ولم يترجم شعاراته فتختف نبرة صوته ولا يُرى علوّ كعبه.
وتجربة حركة التغيير الكوردية في عام 2009 لا تخرج أيضا عن الدائرة نفسها، فهي جعلت من دعوات ومطالب شعبوية نواة مشروعها السياسي وبرنامجها للحكم، واستطاعت بذلك كسب ود الجماهير والظفر بقلوب العامة، وإنتاج شخصيات وأيقونات شعبوية تتمتع بالكثير من الحضور، ولكن سوء استخدامها لكل تلك المميزات ورفع شعارات مثالية أكبر من حجمها ورفض الآخرين المتواجدين على الساحة السياسية رفضا قاطعا وكيل تهم قاسية ومجحفة بحقهم، جعل هوة الاختلاف كبيرة، وعند عجزها عن تنفيذ ما نادت به، أصيب العامة باليأس وتراجعوا عن الدعم الجماهيري بل وبدأوا ينقلبون عليها لا سيما بعد مفاوضاتها مع "أعداء" الأمس ودخولها الحكومة ومشاركتها السلطة.
الحالة عينها تنطبق على حركات وتيارات سياسية أخرى لا تُحسن اختيار شعارات ومطالب منطقية قابلة للتطبيق ولا تعرف استغلال وضعها الجماهيري للدخول في جو العملية السياسية والعمل مع الآخرين على التغيير وفق الأصول والأعراف الديمقراطية المتبعة، ومن تلك الحركات حراك الجيل الجديد الذي أعمته الشعبوية الزائدة وأغراه حصوله على بضعة مقاعد لم يتوقع الفوز بها ويتصور أن ترديد شعارات رافضة للأحزاب المشكلة للحكومة أو مقاطعة كل حدث تشارك بها سيزيد من فرصه لاستقطاب عدد أكبر من الناس، دون آبه بأنه سيتوجب عليه عاجلا أم آجلا الخوض في مفاوضات ومباحثات مع من ترفضهم الآن، وعندما يتحقق ذلك سيجد نفسه في مأزق لا يمكن الخروج منه بسهولة، فالجماهير ستكتشف حقيقته وسيبطل سحر كل ما نادت به من أقوال خادعة ومشاريع موهمة إذ لم يحقق منها شيئا، كما سيفقد الورقة التي يحتفظ بها للضغط حين الحديث عن المشاركة في السلطة، وقد ينقلب الشارع عليه أيما انقلاب ويرد له الصاع صاعين.
تفاصيل هذه الحالات تكاد تنطبق على ما يقوم به التيار الصدري في الأزمة العراقية الراهنة، فهو يتمتع بشعبية واسعة مكنته من حصد أكبر عدد من القاعد في مجلس النواب خلال الانتخابات الأخيرة ولكنه على الرغم من ذلك لم يتمكن من تشكيل الحكومة لرفض التشارك مع غيره من القوى والأحزاب الفائزة خصوصا من الشيعة، يضاف إليه تزمته في قبول الآخرين وتشدده في معاملتهم سياسيا.
التيار استغل نزعته الشعبوية وقوته الجماهيرية في الشارع للمناداة بأمور صعبة التحقيق دون أن يتمكن منها كتغيير نظام الحكم القائم، وتعديل الدستور، وتهديد السلطات التشريعية والقضائية والتنفذية في البلاد، ووصم أغلب القوى والشخصيات بالفساد والتبعية، ناهيك عن وضع خطوط حمر على شخصيات لها تاريخها ووزنها وقوتها وأتباعها، كل ذلك حمّل التيار مسؤولية كبيرة وجعله في وضع حرج، وهو في نهاية المطاف مخير بين أن يمضي فيما يدعو إليه وهو صعب التحقيق، أو العودة للمساهمة في العملية السياسية والتعاون مع الأطراف الأخرى لتجاوز الوضع وحل الأزمة التي استغرقت وقتا طويلا الأمر الذي سيؤلب عليه الشارع ويفقده الدعم الجماهيري لذلك نجده يسعى لإدامة الوضع كما هو خوفا من العواقب.