تعلّمْنا في المدرسة عن أدوات النفي، وعن أسمائها ووظائفها... فـ«لا» مثلاً تملك عدّة أسماء، إذ قد تكون مجرد حرف نفي لا يؤثر في ما يليه، أو قد تكون «لا» النافية للجنس التي تعمل عمل «إنَّ»، كما قد تكون «لا» الناهية التي تجزم الفعل المضارع؛ أمّا «لم» فننفي بها الماضي وبـ«لن» ننفي المستقبل... وهناك «ما» و«ليس» و«لـمَّا»...
لكنَّ الأمر المثير للإعجاب أنَّهم لم يعلّمونا أهمية هذه الأدوات في حياتنا... لا سيّما «لا»...

فبهذه الأداة نرفض الاعتداء والظلم، وبها ننهى الآخرين عن أذيتنا أو مضايقتنا وربما إغراقنا بالعناية أو بالمحبة -فائض المحبة مدٌّ يُغرق موضوع العناية أو المحبة آدميًا كان أم نباتًا- وبها نعتذر بتهذيب عن احتساء فنجان قهوة أو قبول دعوة أو زيارة أحدٍ ما... وإنْ استعضْنا بلغتنا اليومية المحكية عن الـ«لا» بـ «ما» أو «مِش» أو «بديش»؛ يبقى المدلول واحدًا نستخدمه لنعبّر عن الأنا التي تعترض أو ترفض أو تنتفض أو تثور أو بكل بساطة تمارس حقَّها في أنْ تعبّر عن ذاتها وأنْ يكون لها صوتٌ!

«لا» قد تُتَرجمُ في يومياتنا بتحريكٍ للكتف صعودًا ونزولاً، أو إعلاءٍ للحاجبين كردّة فعلٍ تلقائية على سؤال من شخصٍ ثقيل الدم، أو على بوق سرفيس يراك واقفًا على جانب الطريق تحاول ربّما اجتيازها إلى الجهة الأخرى، ومع ذلك، يسألك بإطلاق بوقه إذا كنت تريد خدماتِه، والأجمل عندما تكرر تحريك رأسك بالإيجاب، فيتوقف بجانبك ليسألك عن الوُجهة، ويعطيك السعر المناسب، ويفاوضك إذا سرفيس واحد أو اثنين أو تاكسي، وهنا كذلك، رغم الإيجاب قد ينتصر النفي، الذي يُعلن أنَّ المساومة لا تستجيب لرغبة هذا الواقف على الطريق، أو لسائق السرفيس!

ومن وجوه النفي في حياتنا ما يعبّر عن حيرتنا... هذه الحيرة التي نحتار فيها... إذ لِمَ نحتارُ والأمور تبدو -أحيانًا- واضحة، ومع ذلك نجدنا متأرجحين فوق واد سحيق بين خيارٍ وخيارٍ، بين ذهاب أو إياب، بين صيف أو شتاء، بين ثورة أو استسلام، بين حبٍّ أو رحيل، بين شوقٍ أو تناسٍ، بين رغبةٍ أو صوابٍ، وربَّما بين زهرة وزهرة، وفرحة وفرحة، وبسمة وضحكة، وانتصار وإنجاز...

تناقضٌ لا يمكن أنْ يعبّر عنه إلاَّ بـ«لا»، التي ستنفي المعرفة... المعرفة بالقرار الواجب اتخاذه، أو بالسبب، أو بالعلّة، أو بالنتيجة، أو بالمآل...
ولكن؛ إذا نفينا المعرفة، أعلينا أنْ نقول إننا «لا» نعلم أو «لا» نعرف؟ أم علينا أنْ نلتزم بالإيجاب منتقلين إلى حيّز الفعل «نجهل» أو «نحتار»؟ نتأرجح بين نفيٍ وإيجاب، بين عقلٍ ونزعات، بين دفن ونبضٍ، بين كره وخلجات، بين جحود وتصوّف، بين محاسبة نطلبها وتأجيل نبغضه...

وبين الـ«لا» والإيجاب، مساواة للنفي والتأكيد على حدّين تتأرجح حياة الإنسان بينهما، وتتمزق إنسانيته بفيض مشاعر يخبو ليلامس الظلمة حينًا ويرتفع ضياءً ليلامس أحيانًا السماء...