على عكس جميع التوقعات، خرجت دمشق بقرار «تأجيلها العودة إلى كرسي القمة العربية» بعد أن كانت العديد من التصريحات المتداولة مطلع السنة الجارية إلى آخر الأسبوع الماضي توحي بأن قمة الجزائر ستكون قمة جامعة تشهد تصالح المتخاصمين مع «بشار الأسد» وعودة العلاقات الديبلوماسية مع العواصم العربية إلى عهد ما قبل الربيع العربي، ولو أن هذه العلاقة لم تكن في أحسن حال مع بعض الدول، التي يبدو أنها لم تضع بعد النقاط على الحروف فيما يخص الملف السوري ومسألة الإعتراف بفوز «بشار الأسد» في معركة البقاء وهي من عرقلت الوصول إلى توافق لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ولكن من هي هذه الدول؟
وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نحاول تشخيص علاقات سوريا مع العواصم العربية ما بعد 2011: على الصعيد الدبلوماسي تبدو علاقات سوريا مع الأردن في مستوى مقبول وتبدو الأردن حريصة على استعمال نفس الأسلوب في الحديث عن المسألة السورية من دون أن يشكل هذا إزعاجًا للنظام في دمشق في الأردن يحاول دائمًا أن يؤكد أنه لا مجال للحل العسكري في سوريا وأن المسألة السورية مرهونة بالحوار السياسي.
اقتصاديًا؛ يمكن القول بأن علاقات الأردن وسوريا عادت إلى أحسن أحوالها نظرًا للتبادل التجاري بين البلدين وهو ما يؤكد أن الأمور تسير على ما يرام على المستوى السياسي ولكن تبقى مشكلة الأردن الأساسية مع دمشق هو ملف اللاجئين وملف التهربب وضعف التنسيق الأمني على الحدود. نفس الحال مع الجار الغربي العراق فالعلاقات الدبلوماسية بين البلدين تسير كسابق عهدها ما قبل الثورة السورية ومؤخرًا ثم مجلس الأعمال السوري العراقي في إطار تعزيز سبل التعاون الاقتصادي بين البلدين في عدة مجالات وهو ما يفسر كذلك بأن العلاقات الثنائية في حالة صحية جيدة.
قامت الإمارات بإعادة فتح سفارتها في دمشق سنة 2018 وزار الرئيس السوري أبو ظبي شهر آذار الماضي، وكانت تلك الزيارة بمثابة إشارة قوية لرغبة الإمارات في إحداث تقارب بين دمشق ودول الخليج والملاحظ أيضًا من خلال ما ينشر في الصحافة الرسمية الإمارتية أن الإمارات كانت تدفع نحو عودة سوريا إلى مقعدها العربي.

بالنسبة لمصر فلا يبدو أنها تسير عكس تيار الدول الراغبة في إعادة تأهيل النظام السوري لوجود مؤشرين قويين الأول سياسي والثاني اقتصادي:
تغير الموقف المصري من الملف السوري إلى النقيض بعد سقوط الإخوان في مصر. وشهدت العلاقات الثنائية بين البلدين تنسيقًا أمنيًا وصل إلى زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى دمشق سنة 2020، كما أكدت التصريحات السابقة لوزير الخارجية المصري «شكري سامح» بما يقطع الشك أن القاهرة حريصة على عودة سوريا إلى الجامعة العربية على الرغم من وجود تعقيدات تحول دون ذلك.
كما وقعت مصر مؤخرًا على اتفاقية مشتركة مع 4 دول عربية من بينها سوريا بشأن عودة تصدير الكهرباء إلى لبنان بمباركة أمريكية التي لم ترى مانعًا في إعادة تفعيل هذا الخط مرورًا بسوريا على الرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام «الأسد».

يمكن وضع الجزائر وعمان واليمن والكويت والبحرين والسودان وتونس ولبنان في وعاء واحد فجميع هذه الأنظمة تحافظ على علاقات دبلوماسية جيدة مع دمشق وسفاراتها تعمل من دون أشكال، وحتى تونس، التي تملك تمثيلية قنصلية لشؤون التونسيين في دمشق لا تجد حرجًا في عودة «بشار الأسد» إلى الجامعة العربية ولقد حاولت سابقًا في القمة، التي استضافتها ولكنها اصطدمت بنفس المشكلة التي واجهتها الجزائر حاليًا.

تبقي هنالك 4 أنظمة لها مشاكل عالقة مع النظام السوري وفي مقدمتها السعودية التي تجد في التقارب الإيراني السوري مشكلة أساسية تحول دون عودة العلاقات لأن إيران كانت ولا تزال تستعمل النظام السوري في أجندتها المعادية للرياض، كما أن سلوك دمشق الذي لطالما حرص على إظهار العداء للنظام السعودي يقف حاجزًا أمام عودة الثقة بين البلدين وتجاوز خلافات الماضي، التي استمرت لعقود من الزمن وما دامت سوريا محسوبة على إيران فإن الموقف السعودي حريص على أن لا يدعم انظمة تكون واجهة للنظام الايراني وتنفد أجندته في المنطقة.

ثمة مشاكل مع قطر التي كانت السباقة لمحاولة اسقاط نظام «الأسد» من خلال دعم المعارضة السورية ومؤخرًا خلال مشاركة قطر في الاجتماع الدولي الرابع حول سوريا في مدينة جنيف السويسرية، اتهمت الدوحة النظام السوري بأنه لا يفعل شيئًا من أجل إيجاد حل للأزمة المستمرة منذ 11 سنة، وهو دليل واضح أن عداء قطر لسوريا مستمر واحتمال موافقة قطر على عودة سوريا إلى الجامعة تحت رئاسة «بشار» مستبعد إلى حد الساعة ما دامت المؤشرات الأخيرة التي قدمتها في جنيف توحي بذلك… وحتى قناة «الجزيرة» المعروفة بمساندتها للثورة السورية وإن كانت قد سئمت من تغطية الأحداث في سوريا إلا أنها لا تزال تعتمد نفس الخطاب الموجه ضد «الأسد» وتسمح لمقدمها «فيصل القاسم» بوصفه «السفاح» و«المجرم».
لا يبدو أيضًا أن المغرب تدعم عودة سوريا إلى الجامعة العربية لأن دمشق لا تخفي دعمها لجبهة «البوليساريو» ومسألة استقلال الصحراء وهي المسألة التي تضعها الرباط ميزانًا لعلاقاتها مع الدول، أما بالنسبة لـ«ليبيا» فالمسألة معقدة قليلًا ولها علاقة بموضوع المرتزقة السوريين في ليبيا؛ إذ حكومة طرابلس تتهم دمشق بتصدير الإرهابيين إلي ليبيا ودعم «خليفة حفتر» الذي يشكل نظامًا موازيًا لمؤسسات الدولة الليبية، ومع الضعف الحاصل في ليبيا ووجود مشكلة سياسية لا يبدو أن ليبيا ذات وزن في المعادلة التي يسمح لها بتعطيل عودة سوريا إلى جامعة العرب.
يتضح أن مشاكل دمشق الآن هي مشاكل مع دولتين ذات وزن ثقيل في المشهد العربي وهما السعودية وقطر، وعلى الرغم من نجاح الإمارات في تحقيق المصالحة بين أنقرة والرياض إلا أنها فشلت في الملف السوري وكما أسلفت فإن وجود تأثير إيراني قوي في المشهد السوري سيجعل تغير الموقف السعودي صعبًا في الوقت الحالي، أما بالنسبة لقطر فربما يفسر ذلك في أنها لا تزال متمسكة بفكرة سوريا بدون «الأسد» وأن فكرة إعادة سوريا إلى الجامعة العربية سيكون بمثابة وضع المعارضة السورية في النعش وضربة قوية لتيار الإخوان الذي تدعمه وربما لا تزال الدوحة تتمسك ببصيص من الأمل وتنتظر سقوط «بوتين» في معركة أوكرانيا لعل ذلك سيشكل منعطفًا كبيرًا في وجود روسيا في سوريا، الأمر الذي سيضعف النظام السوري ويسهل إمكانية القضاء عليه.
لا ينبغي أيضًا تجاهل الموقف السوري أساسًا من العودة إلى الجامعة العربية، فـ«بشار الأسد» ليس متحمسًا بما فيه الكفاية وليس مستعدًا لتقديم تنازلات من أجل قبول عودته إلى جامعة لا تقدم ولا تؤخر في حال سوريا شيئًا وهو يدرك جيدًا أن الموقف العربي غير قادر على تغيير الموقف الأوروبي والأمريكي من نظامه وأن عودة سوريا لمقعدها لن تكون سوى عودة للاستهلاك الإعلامي، وما دامت مصالح سوريا مع إيران أهم بكثير من مصالحها مع دول الخليج فإن العودة لن تقدم شيئًا جديدًا لسوريا بل ستجبرها على حل مشكلة اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان ومصر وإعادة المرتزقة من ليبيا وهو الأمر الذي يريد «بشار الأسد» أن يتركه لما بعد بسط سيطرته على كامل سوريا وحسم المعركة حسمًا نهائيًا.

#فضاء-الرأي