لم ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيراً ليثبت للجميع أنه ليس من النوع الذي يتقبل الهزيمة بسهولة، إذ لم تكن الانتصارات المحدودة التي حققتها أوكرانيا في خاركيف أكثر من اشعال فتيل قرارات روسية متسارعة وفي صدارتها تأييد انضمام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ومقاطعتي خيرسون وزاباروجيه إلى روسيا، وإعلان التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط أي ما يقرب من 300 ألف جندي.

نبرة الانتصار التي غلفت خطابات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الفترة الأخيرة رغم أن 20% من بلاده تحت سيطرة الروس تجسيد حي للسريالية التي تعبر عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، فرغم الإدراك العالمي واسع النطاق بأن روسيا لن تقبل هزيمة مدوية في أوكرانيا إلا أن دفع واشنطن لزيلينسكي يبدو أنه أفقده التوزان والحكمة المطلوبة فما قام به من هجوم مضاد سيكون ثمنه باهظاً على بلاده والعالم أجمع وكأنه أطلق الوحش الروسي دون أن يعي ذلك.

بويتن في خطابه الأخير كان واضحاً تماماً بأنه غير معني بحسابات الخسارة وهو لا يعرف سوى لغة الانتصار بأي ثمن، وهذا ما يؤكده تحذيره الواضح بأن بلاده تملك أسلحة دمار شامل وفي بعض أجزائها أكثر تطوراً من نظيراتها لدى دول الناتو، مهدداً بأن "الرياح قد تهب باتجاههم"، وهذا ما يعني بأن بوتين لم يعُد معنياً بانتظار الشتاء ليخنق أوروبا بالبارد القارس ويؤجج الضغوط الشعبية على الحكومات الأوروبية، رغم ما تحققه سياسة الغاز من نجاح في إحداث انقسامات في أوروبا والتي ظهرت بوادرها في تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان بأن العقوبات على روسيا أكثر إيلامًا للعالم من الحرب نفسها مطالباً الغرب بالتوقف عن فرضها لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا.

على الطرف الآخر تصر أمريكا على مواصلة الدفع بأوكرانيا وأوروبا نحو زيادة حدة التصادم مع روسيا وتكثيف شحنات الأسلحة النوعية وإدخالها إلى جبهات القتال بغض النظر عن الآثار السلبية التي قد تؤدي إلى إشعال حرب أوسع نطاقاً مما عليه حالياً، خاصة في ظل التوسع الروسي في حشد القوات العسكرية وتسريع عملية ضم أجزاء من أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي.

الطرفان الأمريكي والروسي يمارسان لعبة عض الأصابع، الطرف الأمريكي يحاول كسر روسيا وإدخال الشك في نفوس حلفائها وخاصة الصين المتأهبة في تايون لتكريس فكرة أن موسكو لن تكون قطباً موازياً لواشنطن وأن أي دولة لديها طموحات بتغيير شكل النظام العالمي لن تستطيع تحمل عواقب الرد الأمريكي، فيما الطرف الروسي مستميت في تنفيذ مخططاته وتسريع وتيرتها إلى أقصى مدى.

خسارة موسكو للحرب تعني تعظيماً للدور الأمريكي في ظل الغياب الواضح لأوروبا عن الساحة الدولية، فهي ليست أكثر من تابع لواشنطن رغم كل ثقل القارة الأوروبية اقتصادياً، إلا أنها في نهاية المطاف تعتمد كلياً على حلف الناتو لحماية أمنها، وهذا السناريو تدركه تماماً روسيا وخاصة رئيسها، وهو ليس في وارد أن يخرج مهزوماً بأي حال من الأحوال ولن يحدث هذا إلا في حالة واحدة وهي خسارته لكرسي الحُكم في الكرملين، فالرجل القوي في الذهنية الروسية هو العسكري الذي يحقق الانتصارات، وأي خسارة له تعني أزاحته.

ما يحدث حالياً من صراع واضح وحاد بين واشنطن وموسكو سيكون له ارتدادات عالمية كبرى، ورغم كل الحياد الصيني فليس من المتوقع أن تقف بكين أمام هذا المشهد، وهذا لا يعني بالضرورة الوقوف عسكرياً مع موسكو بل من خلال دعم غير مباشر سواء اقتصادي أو تجسير الدور الروسي مع شركاء وحلفاء الصين، ففي المحصلة تدرك بكين أن خسارة موسكو للحرب تعني تغولاً أمريكياً جديداً في العالم، وأن قضية تايون ستتأجل لسنوات طويلة، كما الدول التي تراهن على الصين ستعيد التفكير كثيراً وستتراجع عن اندفاعها تجاهها، فالانكسار الروسي رسالة لدول العالم جميعاً بأن لا بديل عن واشنطن للأمن الدولي، وأن العالم لم يصل إلى مرحلة تعدد القوى، وكل ذلك قد يصب في دفع بكين تجاه روسيا بشكل أعمق مما هو عليه الآن.

واشنطن وموسكو تدركان تماماً أن لا بديل عن النصر وأن أي خسارة تعني تراجعاً في الساحة الدولية، وتعزيزاً لدور المنتصر، ومن هنا فإن الحرب ستتواصل بشكل لا يتوقعه أحد، وقد تصل إلى مراحل وسناريوهات معقدة تماماً، والخاسر الوحيد في هذه اللعبة أوكرانيا والشعوب الأوروبية، ودول العالم النامي الذي لن يصمد أمام حرب استنزاف طويلة تسعى إليها واشنطن، بالمحصلة ما يجري أقرب إلى "تكسير العظام" بين الطرفين وسيدفع العالم ثمنه باهظاً.