حالة النشوة الكبيرة التي يشهدها الغرب اليوم وتضخيمه لفرضية انهيار صفوف الجيش الروسي في خاركيف، تكاد تتشابه مع الحالة التي سادت قبيل بدء الحرب والتي تم خلالها تضخيم الدور الغربي واستعداده للدفاع عن أوكرانيا في حال الغزو الروسي.
الحالة السائدة في الدول الغربية وإعلامها هدفها محدد وهو الدفع بأوكرانيا إلى مرحلة من الثقة التي تمنعها من الجلوس بعقلانية ومنطقية إلى طاولة المفاوضات، للتوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة بشكل يضمن عدم تطورها إلى مراحل لا يمكن معها الحديث عن أي تسويات، وهذا ما حدث فعلاً قبل بدء الحرب حيث تم تضخيم الدور الغربي ودفاعه عن أوكرانيا، والذي لم يتعدى بعد الغزو عملية التسليح وتزويد كييف بالمعلومات الاستخباراتية.
النفخ في بالون الهزيمة الروسية والانتصار الأوكراني سينفجر قريباً في وجه الجميع، فأي محلل له دراية بسيطة بالشؤون الروسية يدرك تماماً أن الرئيس فلاديمير بوتين ليس من النوع الذي يقبل بالهزيمة الواضحة ويتراجع عن أهدافه مهما كان الثمن، فكما قال في أحد خطاباته: "في بعض الأحيان، يتوجب عليك أن تكون وحيداً لتثبت أنّك على حقّ"، ولعله اليوم قد يلجأ إلى ما هو أسوأ ليثبت أنه على حق في المسألة الأوكرانية.
خسارة روسيا الحرب ليست منطقية ولا تقوم على حقائق عسكرية، ولو افترضنا فعلياً أن التسليح الكثيف للجيش الأوكراني بأحدث المعدات والأسلحة والمعلومات الاستخباراتية أجبر الروس على التراجع في خاركيف، فهل يعني هذا خسارة الحرب وتقديم تنازلات تمثل انتصاراً غربياً ضد موسكو.
الغرب يلعب لعبة خطيرة جداً عبر أوكرانيا التي باتت مجرد أداة بيد واشنطن لإضعاف روسيا ومنع أي فرصة لتحول العالم إلى متعدد الأقطاب، عبر إفشال الدور الروسي وإرسال رسالة للدول الأخرى الصاعدة وخاصة الصين.
حشر الرئيس الروسي في الزاوية كمن يحشر دباً جريحاً معتقداً أنه حقق الفوز عليه دون أن يدرك بأن الدب الجريح مميت وأكثر عدوانية وفتكاً من الدب السليم، فالرئيس الروسي يدرك تماماً أن خسارته للحرب تعني بالضرورة إضعافه داخلياً وتدميراً للصورة التي رسمها لنفسه كقائد قوي ممسك بمقاليد السلطة، وتراجعه في أوكرانيا سيفتح عليه أبواب التمرد خاصة في المؤسسة العسكرية، فالقائد المهزوم لا يملك السلطة الكافية لمنع التفكير بالانقلاب على النظام، وهذا ما يعني أن بوتين ونظامه العميق يعي بأن الخسارة تعني زواله ولن يقف مكتوف الأيدي حتى هذه المرحلة، التي يرى فيها نفسه ضعيفاً ومجرداً من قوته.
الحروب لطالما رُسمت لها سيناريوهات متعددة منها ما هو مرجح ومنها ما هو بعيد ولا يُمكن التفكير فيه، وفي ذات الوقت فالتاريخ يقول بأن أبعد السناريوهات هي التي أدت إلى كوارث غرزت أنيابها في جدار التاريخ، بحيث لم تُمسح فظائعها رغم مرور عشرات العقود على وقوعها، وقد يكون السيناريو الذي يتحدث عنه أحد اليوم هو لجوء بوتين إلى القوة التدميرية الشاملة والتي لا تعني القوة النووية، بل الدخول في حرب شرسة تستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة دون أي ضوابط أو قواعد.
روسيا اليوم ليست في وارد الخسارة لأسباب داخلية وخارجية، والغرب يعمل على دفعها سواء بقصد أو بدون قصد إلى حالة "الدب الجريح" الذي قد ينقلب إلى في لحظات إلى غريزته الأساسية وهي غريزة الصيد والافتراس، وعندها قد يدفع العالم ضريبة ذلك من أمنه واستقراره بعد أن دفع ضريبة مضاعفة من اقتصاده وخاصة الشعوب الأوروبية التي تعاني الأمرَين اليوم نتيجة فاتورة الغاز.
- آخر تحديث :
التعليقات