أن تكون مريضا من قطاع غزة فهو بحد ذاته مقاومة، في ظل ظروف تمر بها المنظومة الصحية التي وصلت الى وضع كارثي بكل المقاييس يوشك أن يعلن وفاتها.... في غزة الجريحة تصح مقولة "فاقد الشيئ لا يعطيه" ذلك لأن النظام الصحي ليس بامكانه أن يقدم الصحة للمريض فهو في الأصل عليل، فلا أدوية متوفرة ولا أطقم طبية تكفي لتغطية الخدمة، الأمر الذي يخضع الطبيب لروتين يومي من الضغط الشديد والظروف المهنية القاسية التي لا شك أنها تؤثر في الأداء والكفاءة، ولا أجهزة طبية لتشخيص الأمراض، اذ خرج أغلبها عن الخدمة نتيجة لغياب الصيانة وانعدام قطع الغيار، وضع يلخص حالة تشارك فيها ثالوت خطير "حصار + انقسام + سوء تسيير".
وفقا لمعايير الصحة العالمية، فإن ألف نسمة يتطلب من أربعة إلى خمسة أطباء متخصصين، معادلة لا يمكن تجسيدها في الرقعة الأكثر اكتظاظا في العالم اذ يعاني في الأساس من نقص حاد في الطواقم الطبية، وهي الأزمة التي خلقت نتيجة تزايد هجرة الأطباء والعاملين في المنظومة: بين سنة 2018 إلى 2022 غادر غزة أهم الأطباء في تخصصات العظام والمخ والقلب والجراحة والتخدير، وعلى الرغم من مبادرة وزارة الصحة على تدريب كوادر طبية جديدة من خلال المجلس الطبي الفلسطيني وبرنامج البورد الفلسطيني لسد العجز في الكوادر المدربة للتخصصات الطبية النادرة، الا أن هذا لا يعالج المشكلة من جدورها خاصة مع تزايد الحالات المرضية المستعصية حيث يتم تشخص 5 حالات جديدة لمرضى الأورام، ووفاة حالتين يومياً، ناهيك عن غياب الدعم الصحي المطلوب لمرضي السرطان، وهو مؤشر مقلق يصف الوضع الراهن داخل القطاع والمرشح للارتفاع خلال السنوات القادمة.
دخول أحد المستشفيات في قطاع غزة بالنسبة للمرضى لا يختلف كثيرا عن مغادرتها، فنقص الأطباء يقابله نقص في الأدوية خاصة بالنسبة للأمراض الخطيرة كالسرطان والأورام والتي تتطلب أدوية خاصة، حيث تفيد التقارير الصادرة عن قطاع الصحة بأن عدد أصناف الأدوية الأساسية قد بلغ 256 صنفا دوائيا من أصل 516 صنفا، بنسبة عجز تصل إلى 49.6%، في حين بلغ عدد الأصناف التي يكفي رصيدها لأقل من ثلاثة أشهر 74 صنفا دوائيا بنسبة عجز 14.3%، ويؤثر هذا النقص الكبير في الأدوية الأسـاسـية والمستلزمات الطبية سلبا على الخدمات الصحية وجودتها، وهو ما يهدد حياة المرضى ويزيد من الأعباء المالية على الفقراء منهم، خاصة عندما يضطرون لشراء الأدوية واللوازم الطبية من القطاع الخاص بأثمان باهضة.
نقص المستلزمات الطبية والعلاجية داخل مستشفيات غزة يدفع بالكثير من المرضى داخل القطاع لأخد طرق اخرى في سبيل الحصول على العلاج ومنها التقديم على تصاريح للخروج من القطاع نحو الضفة الغربية ومناطق الداخل المحتل، ليصطدموا بالذرائع "الأمنية للاحتلال الإسرائيلي" وان تم منحها فالمدة غير كافية للمريض ما يدفعه لإلغاء الطلب، أعاقت سلطات الاحتلال منذ بداية العام 2022، سفر 5001 مريضاً من أصل 13270 مريضاً بنسبة 37.6% من إجمالي الطلبات المقدمة للحصول على تصريح للسفر بغرض العلاج في مستشفيات الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة أو المستشفيات الإسرائيلية، ويتنافـى هذا مـع مـا نصت عليـه المادتان 16 و17 من اتفاقيـة جنيف للعام 1949، واللتيـن تلزمان أطــراف النــزاع علـى إقــرار ترتيبـات محليـة لنقـل الجرحى والمرضى.
يبقى مرضى القطاع في معاناة مستمرة بين حصار إسرائيلي ومنظومة شبه منهارة تخطى عجزها الأجهزة الطبية ليصل أيضا الى الطب النفسي: لا يوجد في قطاع غزّة سوى مستشفى واحد متخصص في الصحة النفسية، وهو ما يعني استحالة تقديم الدعم اللازم في رقعة جغرافية صغيرة يتجاوز عدد ساكنيها المليوني نسمة، يكفي فقط أن نعلم بأن الظفر بموعد عند طبيب نفسي يعمل في قطاع الصحة الحكومي قد يستغرق أسابيعا، إن لم نقل أنه قد يبقى معلقا من دون رد.
يأتي ذلك في الوقت الذي ذكر فيه تقريرٌ صادر عن الأمم المتحدة في سبتمبر 2022 أن ثلث سكان القطاع بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي بعد أكثر من 15 عاما على حصار غزة، وهو ما يعني أن المواطن الفلسطيني في غزة وان تمتع بصحة جسدية فصحته النفسية ستكون مهددة في ظل وضع اقتصادي خانق يلقي بظلاله على جميع مناحي الحياة.
التعليقات