6 كانون الثاني، 1921 هو يوم تأسيس الجيش العراقي المغدور. وبهذه المناسبة تعالوا نبحث عمن كان، حقا وواقعاً، مرتكبَ جريمة حله، وطرد قادته وضبطه وجنوده، واستبداله بجيش مُلملم من دكاكين الأحزاب والمليشيات المنفلتة ليصبح للدولة العراقية الجديدة جيش معاق متسول مطأطأ الرأس أمام سطوة الأحزاب الحاكمة الجديدة التي لا تجيد سوى التعالي على الدولة، وإهانة كرامتها، والعبث بسيادتها، مقابل إطلاق أيدي قادتها في موانئها ومطاراتها ومنافذها الحدودية، ولكي يتقاسموا نفطها وغازها، وينهبوا خزينتها، باعذار وشعارات ثبت أنها، كلها، مغشوشة وأبعد ما تكون عن الحقيقة، وأنهم ليسوا أكثر من قطاع طرق بثياب حكام، بلا شرف ولا وطنية ولا وجدان.

وعند الحديث عن قرار حل الجيش العراقي، تتضارب التعليقات، وأغلبها يُحمل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر جريرة هذه الخطيئة القاتلة.
ولكن الحقيقية، وهذه شهادة للتاريخ، هي أن أشد المطالبين بحله والمصرين على ذبحه من الوريد إلى الوريد كانوا قادة الحزبين الكرديين، مسعود البرزاني وجلال الطالباني، وخيول إيران، عبد العزيز الحكيم وأحمد الجلبي وإبراهيم الجعفري ومحمد بحر العلوم وموفق الربيعي، فقط لا غير.

نعم، قد يكون حل الجيش هوغاية المخطَّط المُقَر والنافذ لدى إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن. ولكن كان على الموظف المكلف بالتنفيذ، بول بريمر، أن يستدرج حلفاءه العراقيين، ومرجعية السيستاني، إلى تبني هذا المطلب الخطير، ليظهر أما الشعب العراقي وغيره من شعوب المنطقة والعالم بريئا من دم هذا الجيش خوفا من أن يجعل مهمة الأمريكيين في العراق رحلة صيد غير ممتعة وغير خالية من الآلام.
فقادة الأحزاب الكردية يكرهون الجيش العراقي لأنه كان الأداة التي استخدمها صدام حسين ضدهم ليعاقبهم على تآمرهم عليه وعلى الوطن والجيش، ولينتقم من قيامهم باحتلال أجزاء مهمة من المدن والقرى العراقية لصالح إيران، في أيام ما صار يُعرف بحرب الخميني وصدام.

أما إيران وخيولها في العراق فلا يسرها سوى الانتقام من هذه المؤسسة العسكرية الضاربة التي لم تسمح سابقا، ولن تسمح لاحقا، بجعل الوطن العراقي ولاية ملحقة بامبراطورية الولي الفقيه.
وحملات التهديد والاغتيال والخطف التي استهدفت وما زالت تستهدف كبار الطيارين والضباط العراقيين العرب، (شيعة وسنة)، الى اليوم، ليست سوى حملاتٍ منظمة تقف وراءها إيران.

يضاف الى هذا سببٌ آخر، وهو خوف السياسيين الجدد الذين أورثهم الغزو الأمريكي الأرض وما تحتها وما فوقها من احتمال أن يكون هذا الجيش (القوي المتماسك) مانعَهم من تدمير الدولة وتمزيقها وتهميشعا ونهبها وإذلال أهلها، وحائلا دون قيام دولة الطوائف الجديدة، واقتسام الغنيمة.

والذي يؤخذ على بريمر، وليس على حلفائه العراقيين، أن قرار الحل جاء مفاجئا وعاجلا دون تأمين الحقوق والتبعات المالية والتعويضات العادلة لضباط وجنود الجيش المسرحين، وباقي المنتسبين إلى المؤسسات العسكرية والمدنية الأخرى التابعة لوزارة الدفاع والحرس الجمهوري والأمن الخاص.

هذا من ناحية. ومن ناحية مقابلة فإن خطيئة طرد مئات الآلاف من الضباط والجنود من الخدمة، دون تعويض، وفرت دعما غير محدود لتنظيم القاعدة ووريثها تنظيم داعش الإرهابي بعد أن اضطر عدد كبير من العسكريين المطرودين من ذوي التجارب الغنية في التصنيع العسكري وفنون استخدام الأسلحة المتنوعة وقتال الشوارع إلى البحث عن معين ومعيل.

ويصف لنا بريمر في مذكراته حجم جهله السياسي والثقافي، وهو يقرر لنا، نحن العراقيين والعرب، أن النصر الأمريكي في العراق، لم يكن ممكنا تحقيقه دون مسح الدولة العراقية من الوجود، ومنح الشطار السبعة، عبد العزيز الحكيم وابراهيم الجعفري وأحمد الجلبي ومحمد بحر العلوم وموفق الربيعي ومسعود البرزاني وجلال الطالباني، وحدهم، مفاتيح الكيان الجديد، وكل السلاح، والسلطة وكل المال.
فقد أوهموه بأمور تبيَّن له فيما بعد أنها غير صحيحة وغير حقيقية، وجعلوه ينقل الى رئيسه، بوش الإبن، كل معلومات مزورة عن الشعب العراقي وتاريخه العريق.

حتى الرئيس بوش نفسه لم يخضع لحملة تثقيف مخلصة من حلفائه العراقيين. فقد أعلن أمام رند الرحيم وكنعان مكية وحاتم مخلص في البيت البيض، قبيل الغزو بقليل، أنه (لم يكن يعلم بأن العراقيين شيعة وسنة، بل كان يعتقد بأنهم جميعا مسلمون).
وقد ظل بريمر يكرر في مذكراته أنه لم يتوقف عن طلب النجدة والبركة من السيد السيستاني لتذليل كل عقبة كان يضعها الشطار الشيعة في طريقه.
أما السنة فإنه يروي لنا أنه اعتقد بأن غازي الياور وعدنان الباجه جي ونصير الجادرجي ومحسن عبد الحميد فيهم الخير والبركة، وأنهم وحدهم قادرون على لجم المعارضين السنة، وهم فئة قليلة مشاكسة متضررة ستنتهي مقاومتها ببعض القتل، وهدم بيوت، ومداهمة الأسر الآمنة.

وبين هذا وذاك كانت جميع الدول (الجارة) و(الشقيقة)، دون استثناء، تحرص على عدم إغضاب حليفهم الأمريكي حتى وهم يرون أنه يسلط إيران الخميني، بفكرها الطائفي المتخلف، وبعدوانيتها ودمويتها، ليس على العراقيين وحدهم، بل على شعوب دول الجوار كافة. وهذا الذي كان، ومازال، وسيبقى يكون.

إن حل الجيش العراقي 2003 كان مثلبة كبرى، وخطيئة لا تغتفر، سيحاسب التاريخ من ارتكبها ومن شارك بصمته في ارتكابها. لسبب بسيط، لأنها أسست لكل ما حدث بعدها من خراب وقتل ودمار وضياع عدالة وكرامة وأمن وأمان.
والآن، وقد أصبحت أعداد العراقيين القتلى والمغدورين والمغيبين والمهجرين والهاربين إلى المنافي (المسجلين رسميا) بالملايين، وقتلى الأمريكيين بالالاف، وبعد خراب البصرة وبغداد والموصل والفلوجة والنجف والرمادي، ودمشق وبيروت وصنعاء، أما آن الأوان ليكفر الرئيس الأمريكي عن ذنوب إدارات أسلافه السابقين، وفينجد الشعب الإيراني الخارج إلى الموت أو النصر، ويحرر العراق ويريح المنطقة من هذا الكابوس، ويستريح؟؟