ربما لم يشهد التاريخ مثيلاً مِثل العراق في صناعة الأزمات، فن في غاية الجودة والحِرفيّة، إسلوب مُتقن في الخِداع يعمل فيه مُحترفون بترويض العقول وتدجينها ومُمارسة حيّة لإستنتاج أنَّ مساحات الذاكرة عند الشعب مُستعدّة إلى حذف السِجلات القديمة لتحل مكانها أزمات جديدة.

لاتُسعِف العقول من أين بدأت صناعة الأزمات في العراق ومَن هو الذي سَنَ سُنّتها أو إخترعها؟ وماهي أول أزمة حارت بها العقول؟.

دعونا نتوقف عند إحدى صناعات الأزمة ومُخرجاتها ولِنبدأ بأزمة إرتفاع سعر الدولار مُقابل الدينار وممارسات السُلطة التي يدفع ثمنها الشعب.

هذا المجتمع الذي دائماً ما يكون هو الضحية لِكُل الأخطاء، وقبل أزمة الدولار صَنعوا له أزمة سَرِقة القرن بإسلوب كوميدي ساخر وبِمُخرج فاشل لايُحسِن الإخراج حين إتفق الجميع على صفقة رابحة للجميع، يتم من خلالها إطلاق سراح السارق أو الفاسد مُقابل أن يتم إسترداد بعض المال المنهوب لِيخرج هذا الفاسد ويُعاود دورة حياة الفساد والسرقة بِمُباركة الجميع.

قبل أزمة سَرِقة القرن صَدّعوا الرؤوس بِقانون الأمن الغذائي الذي شَرّعوه بِفساد مُشرعن لِسرقاتهم بعد أن وَقَعوا في إغواء شياطينهم الملعونة لنهب مليارات الدولارات المُتناثرة التي هبطت على البلد بِفعل إرتفاع سعر النفط في الأسواق العالمية، وأزمات ما قبلها وبعدها لن تنتهي حكاياتها وفصولها.

أزمة تتلوها أزمة لإشغال الناس وترويض العقول لإيجاد المساحات والوقت الكافي للإنقضاض على مايُمكن الإستحواذ عليه، طريقة مُثلى في إلهاء الشعب وإشغاله.

يعلمون جيداً أن الإستقرار المعيشي والهدوء السياسي يعني نهايتهم أو كتابة خاتمة لِنظامهم السياسي لأنهم متأكدين أن هُدّنة السُلطة مع الشعب ستجعلهم عاجزين أمام أسئلة المواطن التي لا تنتهي عن مشاكل الكهرباء، الماء، البطالة، وحتى الفساد.

فن صناعة الأزمة يعني أن العقول ستظل تلوك تلك الأزمة وتبحث عن مُخرجات وحلول لها ولملمة أضرارها التي تُسبّبها ونِقاش وجِدال في مضامينها لِنسيان السابقات وإستعداداً للقادمات ولِتستمر الدوّامة والبحث عن أزمات جديدة ومُبتكرة.

نظام سياسي مُتوتّر ومُشوّش لايبحث عن الإستقرار والهدوء بل الفوضى والإرباك لكي تستمر ديمومة حياته السياسية وسط هذا العالم الشائك.

صناعة الأزمة تُتيح لهم التصرف بِحُريّة في عالم اللصوصية والسرقة عند إلهاء الرأي العام عنهم وإنشغالهم بالأزمة.

تصّوروا لو كان البلد مُستقراً وهادئاً يخلو من الأزمات ماذا كان يحدث؟ وأين سينتهي المطاف برجال السُلطة، سؤال معروف إجابته مُسبقاً حيث لا مكان لهؤلاء في عالم السياسة عندنا.

ننتقل من أزمة إلى أخرى، حتى تعوّدنا على صناعة الأزمات وصُنّاعها وفنونها بل وطُرق صناعتها، تعوّدنا أن ننام ونصحوا على أزمة مُستحدثة تأخذ من عقولنا بعض الوقت لتحل بعدها أزمة أخرى وبإسلوب مُختلف، هي دورة الحياة في الوطن الذي لا يُمكن أن تُغيّر طبائعها وشروطها.

فن صناعة الأزمة لا يُجيد صُنعه سوى الذين إعتدنا أن نرى وجوههم على شاشات الفضائيات وهم يتحدثون ويصرخون ويُحذرون، ونحن ننظر إليهم ونسخر ونقول "أنتم سبب أزمتنا أيُها السياسيون".