تبدو التطورات مثيرة، بينما تأخذ الاتجاهات منحنيات غير مطمئنة، فى وقت تتخطى فيه الحرب "الروسية-الأوكرانية" عامها الأول، وبدلا من سعى دولى جاد وتكاتف عالمى من أجل السيطرة على الأمور وتحجيم تداعياتها، نُطالع بزيارة الرئيس الأمريكى إلى كييف، فى إشارة بديهية إلى استمرار الدعم الأمريكى لأوكرانيا، وربما لم يعد بايدن يعبأ بالرأى العام الأمريكي أو قرارات الكونجرس، ليعلن مواصلة دعم أوكرانيا بأسلحة وذخيرة مدفعية تتجاوز نصف مليار دولار _متخطيا ما يقارب 100 مليار دولار إجمالى ما تحملته الولايات المتحدة منذ بدء الحرب_، وهو ما ذكره فى خطابه بوارسو_العاصمة البولندية_ حيث تعمد الرئيس الأمريكى التأكيد على دعم واشنطن لكييف منوها إلى المادة الخامسة وبموجبها فإن كل دول حلف الناتو ملتزمة بالدفاع عن أى دولة بالحلف الأطلسى، فى تحفيز للاتحاد الأوروبى على مواصلة الإمدادات.

وبينما لا يزال الموقف الأوروبى متخبطا، تواصل الولايات المتحدة محاولاتها من أجل إقحام أوروبا، وإن كات تحاول معها سد العجز من واردات الغاز، عبر مضاعفة الكميات والتى توردها إليها، حيث اقتربت من 140 مليار متر مكعب من الغاز المسال ذلك خلال العام الماضي، فى وقت تتزايد فيه الخسائر الاقتصادية والتي يتكبدها الأوروبيون، مع استمرارية تذبذب الإمداد الروسي للغاز، والمقرر تراجع وارادته بما يعادل 40% نهاية العام، غير أن التراجع الأوروبي برز على نحو جلي، فى اتجاهات عدة أبرزها تراجع ألمانيا على إثر تزعزع وضعها الاقتصادي وتخطي تكاليفه جراء الحرب ما يتجاوز 169 مليار دولار، بينما تحاول منذ العام الماضي إحداث طفرات قوية على مستوى جيشها وعمليات تسليحه، وهو ما تأثر أيضا جراء إسهاماتها مع أوكرانيا، ومؤخرا ترددها فى إرسال تسليم الدبابات لكنها وعدت بتسليم نصف كتيبة من دبابات ليوبارد -2، وهو ما أكده بوريس بيستوريوس _وزير الدفاع الألماني_ من أن بلاده لن تكون قادرة على توفير كتيبة كاملة، في وقت امتنعت فيه هولندا والدنمارك عن مواصلة التسليح الأوكراني.

بريطانيا أيضا أرادت الانعكاف على أوضاعها الداخلية وأزماتها إلا أن تخوفاتها جراء الأوضاع العالمية المعاصرة، أجبرتها على الاستعدادات العسكرية الأخيرة، من خلال الضغط على ريشي سوناك_رئيس الحكومة_ بزيادة الإنفاق العسكري، أما فرنسا والتي حرصت منذ اندلاع الأزمة وقبل نحو أكثر من عام، على تهدئة الأجواء والبحث عن مخرج، بل وصل الأمر إلى الحديث عن طلب السلام، ما زالت تترقب الأوضاع لكنها سلمت أيضا بضرورة تسليح أوكرانيا، البرتغال أيضا سعت فى مواصلة الإمدادات قدر الإمكان، ناهيك دول مثل المجر وغيرها، ما زالت تحرص على روسيا، وتتردد فى المشاركة، وجميعها مواقف تبرز التراجع الأوروبي وإعلان التردد ما بين المشاركة بالتسليح، أو الإحجام تأثرا بالتداعيات الكارثية.

غير أن مؤتمر ميونخ الأمني كان كفيلا بإيضاح الاتجاهات الأوروبية القادمة، خصوصا مع طلب الرئيس الأوكراني المساعدات مجددا، ليتسابق الغرب فى دعم كييف، حيث وعدت أوروبا بمزيد من التسليحات لأوكرانيا، على الرغم من التخوفات والتذبذبات، وهو ما كشفه جوزيب بوريل_ مسئول الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي_ عن تراجع المخزون الأوروبي من الذخيرة القتالية، مع غياب مفاهيم الحرب التقليدية، فى عجز واضح_ ولو بنسبة_ من قبل أوروبا تجاه روسيا.

عام عسكري جديد بكل تداعياته وتأثيراته، تمكن الكبار من ترسيخ قواعده مع الاستبعاد التام لأية سيناريوهات قائمة على المعالجة السياسية لهذا الصراع، والحقيقة فإن الاستعداد الروسي يبدو واضحا سواء على مستوى الحشد والتجهيزات سواء العملياتية، أو حتى المناورات وأبرزها تعليق المشاركة فى معاهدة ستارت_ وليس انسحابا_ فلم يكن خطاب بوتين أقل حدة من خطاب بايدن، بل برزت فيه عدة من الدلالات والملاحظات أهمها إظهار تحدي واضح للغرب، مع استخدام مصطلح المنهجية فى إدارة الحرب، فى إشارة إلى إستراتيجية جديدة مفاداها تعميق الأهداف وتصحيح الأخطاء، وهو ما يثير القلق والمخاوف، وحتى يفلت من البعد الإنساني، تعمد الحديث عن الشعب الأوكرانى، وكأنه أراد تحريره من الأسر، لكن يبدو أيضا أن الرئيس الروسي على إدراك تام بقدرات أوروبا التسليحية!

وبالرغم مما أثير حول مطالبات الجمعية العامة للأمم المتحدة بحتمية الانسحاب الروسي من أوكرانيا مع الدعوات إلى السلام، إلا أن المؤشرات كافة جاءت فى اتجاه المعالجات العسكرية والتسليحية، مع الاستبعاد التام للسياسية.


[email protected]