ما بين وقف التنسيق الأمني والتوجه الى الجنائية الدولية تجد السلطة الفلسطينية نفسها مضطرة الى العودة لاستعمال أدوات ضغط استعملتها سابقا ولكنها لم تف بالغرض، ويستمر الاحتلال بتنفيذ سياساته التي لم تتغير بتغير الأسماء في المناصب والحكومات التي يجمعها قاسم مشترك واحد وهو عدم الاكتراث باللوائح الأممية ومواجهة المقاومة بجميع الأساليب المتاحة اقتصادية كانت أم امنية.

كان عام 2022 واحدا من أكثر السنوات دموية في فلسطين، وميلادا لحكومة إسرائيلية جديدة شبيهة بحكومة أرييل شارون تقدم الخيارات الأمنية على الخيارات الأخرى وتحمل على اكتافها حل الدولتين الى مثواه الأخير، وان كانت الحكومات السابقة تسير في نفس الاتجاه الا أن حكومة نتنياهو تحظر لأبعد من ذلك فهي تعمل بشكل واضح على انهيار مفهوم الدولة وتعوضيها بمفهوم "الكانتونة"، وبهذا لن تحتاج إسرائيل الى تنسيق أمني مع الجانب الفلسطيني بل سيصبح ذلك مسألة داخلية بدل أن تكون مسألة تحتاج الى السلطة كشريك.

ان ما جاءت به صحيفة لوفيغارو الفرنسية عن نوايا الرئيس ماكرون بإيجاد خليفة لمحمود عباس بعيدا عن الأنماط الكلاسيكية وخارج المجال السياسي والمؤسسي وفق لما ذكره مصدر ديبلوماسي فرنسي يصب في هذا الاتجاه تحديدا بعد أن أضحت فكرة الاعتماد على فتح والإبقاء عليها لا تأتي بالنتائج المرجوة على الصعيد الأمني، وبعد أن أصبحت فتح أكثر إصرارا على التوجه الى الجنائية الدولية وهو الأمر الذي قد سيضع السياسية الأمنية الإسرائيلية تحت المسائلة الدولية بوصفها "سياسة إجرامية" ويعطي لأعمال المقاومة نوعا من الشرعية تحت بند "الدفاع الشرعي" في حال ادانة إسرائيل، وهو ما يمثل أحد الخطوط الحمراء لدى الاحتلال والذي لا يجب أن يحصل بأي ثمن.

لقد فقد محمود عباس كل الآمال المعلقة على حل الدولتين، وأصبح أكثر وضوحا في خطاباته التي تنتقد وتجرم إسرائيل فخلال زيارته لألمانيا العام الماضي وصف الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين "بالهولوكوست" وهو الوصف الذي أثار حفيظة إسرائيل والمستشار الألماني شولتس، كما أعلن بوضوح من خلال منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن إسرائيل لم تعد شريكا موثوقا في عملية السلام وانتقد صمت الأمم المتحدة وانحيازها لإسرائيل، وذهب أبعد من ذلك عندما التقي مؤخرا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة "استانة" وقال بانه لم يعد لديه ثقة في واشنطن كوسيط للسلام في الشرق الأوسط، كما لم تنجح زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن الى رام الله في اجبار الرئيس الفلسطيني عن التراجع عن قرار وقف التنسيق مع دولة الاحتلال، لكن قمة العقبة الأخيرة كانت استدراجا إسرائيليا لعودة التنسيق بعد أن سعت خلال الأسابيع الماضية الى التصعيد في محاولة لجر السلطة الفلسطينية الى طاولة الحوار وهو ما ترتب عليه هجوم عنيف من قبل بعض القوى السياسة ومن الحاضنة الشعبية للمقاومة وفتح وهو ما يعني أنها أسقطت السلطة الفلسطينية في الفخ وجعلت منها سلطة غير مرغوب فيها بعد أن تمكنت خلال الأشهر القليلة الماضية من استعادة ثقة الشعب الفلسطيني فيها.

تنكر نتنياهو سموتريتش وبن غفير لمخرجات بيان قمة العقبة بعد يوم واحد من انعقادها نجح في الإيقاع بين السلطة والقوى الفلسطينية التي عبرت عن عدم وجود اجماع شعبي يسمح للسلطة بالمشاركة في قمة العقبة وهو الغاية التي تهدف لها إسرائيل من خلال تنكرها لمخرجات البيان "أي زيادة اضعاف السلطة على المستوى الشعبي وخلق توترات داخل البيت الفلسطيني" ومن الأكيد أن المصالحة بين حماس وفتح قد عادت الى المربع الأول خاصة بعد موجة الهجوم المتبادل الذي تلى قمة العقبة، ليس هذا فحسب بل ان اسرائيل نجحت في تفريق الأصوات حتى داخل السلطة من خلال خلق معارضة داخل بيت فتح بين رافض لعودة التنسيق الذي لن ينجر عنه سوى اتفاقيات أحادية الجانب لا يمكنها أن تنجح في ردع الاحتلال، وبين من يرى فيه ضرورة لتجنب إراقة دماء الشعب الفلسطيني وكف سياسات الاستيطان التي تؤجج الصراع وتقضي على ما تبقى من دعم عربي لمبادرة للسلام وبالتالي خسارة المزيد من الحلفاء العرب .

لا شك في أن سياسة إسرائيل الاستيطانية ستستمر ولا شك في أن اتفاق العقبة سينهار في وقت قصير وهنا ينبغي أن تتفطن السلطة الفلسطينية الى ان هذا الانهيار سيكون على حساب حاضنتها الشعبية وليس على حساب إسرائيل، وأن هذه الأخيرة لم تعد تخشى انهيارها وما يترتب عنه من خطورة أمنية، بل انها تعمل سعيا له وذلك لإنهاء القضية الفلسطينية على المستوى الدولي.