من قلب الألم المرتسم على جبين الانسانية ومن عمق المعاناة والقهر الاقتصادي والفقر المدقع الذي ترزح تحت وطأته بعض الشعوب العربية، و التي من أحد أهم اسباب إفقارها السياسات الاقتصادية الفاشلة والسرقات العلنية لمقدرات بلاد بأكملها، في ظل تفشي غير مسبوق للفساد للمحسوبيات والرشاوي وانعدام الأمانة، يخرج علينا سياسيو ومهندسو تلك النكبات في تلك البلاد ليتحفونا بنظرياتهم لسدّ عجز الموازنات والخروج من نكبة الافلاس وتأمين السيولة النقدية السريعة عبر اقتراح "تصدير المواطنين" للخارج باعتبارهم مصدرًا رئيسيًّا لدخول العملات الأجنبية الى السوق المحلية.

فقد أثارت تصريحات أطلقها النائب اللبناني طوني فرنجية نجل سليمان فرنجية المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية وحفيد الرئيس السابق، جدلًا في الشارع اللبناني بعدما دعا من خلالها تأمين العملة الأجنبية عبر تصدير مواطنين من ذوي الكفاءات والخبرة بدلًا من تصدير المنتوجات الزراعية قائلا: "ان كل مهندس يتم تصديره يرسل عملة أجنبية توازي موسمًا كاملًا من الخيار والبندورة"!

وبعدها بأيام خرج رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي بالمنطق نفسه ليعلن لشعب مصر "العظيم" عن استراتيجية تستهدف تصدير العمالة المصرية إلى الخارج! معتبرًا أنها جزء من زيادة الصادرات بطريقة غير مباشرة. موضحا أنه "يجب أن نضمن خروج عدد من العمالة إلى الخارج، نستهدف بهم أسواقا عالمية وإقليمية لتخصصات مختلفة"

وبحسب تقديرات البنك الدولي فقد تَبَوَّأَ لبنان المركز الأوّل في المنطقة والمرتبة الثانية عالميّاً بعد تونغا إذ قاربت تحويلات المغتربين 7 مليارات دولار سنويا اي بنسبة تجاوزت 53% من الناتج المحلّي الإجمالي.

اما مصر فقد احتلت المرتبة الأولى باجمالي قيمة التحويلات حيث تجاوزت 32.3 مليار دولار سنويا وهي تمثل نسبة تقارب 25% من إجمالي الموارد البالغة 139 مليارا، لتحتل التحويلات المركز الأول بين أنواع الموارد، وهي نسبة أكبر من الصادرات السلعية غير البترولية، ومن ضعف صادرات البترول والغاز الطبيعي، وأكثر من 3 أضعاف الدخل السياحي، وحوالي 5 أضعاف دخل قناة السويس!

وفيما تسعى معظم دول العالم بما فيها النامية الى تبنّي استراتيجيات طويلة الأجل لضمان بناء الانسان والاستثمار بالعنصر البشري والعمل الجاد على الحد من هجرة الأدمغة، نجد دولا اخرى لا تجيد سوى فنّ الجباية المباشرة من المواطنين، وبيع أصول الدولة والثروات الطبيعية للحصول على السيولة السريعة، لسد العجز والمديونية ولو أدى ذلك الى "بيع" المواطن نفسه وتصديره في نهاية المطاف.

انه لأمرٌ خطير بالفعل! فناهيك عن ان تلك الدول غائبة عن خارطة التنافسية الدولية، وقد خرجت من اطار المساهمة في التطور البشري منذ زمن بعيد رغم توفر كافة الإمكانيات الجغرافية والبيئة والثروات الطبيعية والبشرية لتكون في مقدمة الأمم، نجدها وقد تحولت عمليا الى متسول رديء سيء السمعة بين الدول وبائعٍ مفلس لكل ما يمكن بيعه حتى لو كانت السلعة الانسان نفسه حرفيًّا.

ووفقا لمسح أجراه "الباروميتر العربي" في حزيران - يونيو الماضي. وشمل عينة من أكثر من 33 ألفا، توزعوا على 14 دولة عربية فإن نتائج البحث أفضت إلى أن نحو 30% من سكان هذه الدول يسعون للهجرة لأسباب تنوعت بين اقتصادية وسياسية وأمنية وتعليمية. وإن كان الدافع للهجرة من العراق أمني فإن الدافع في مصر هو اقتصادي بالدرجة الاولى فقد اكد 97% من الذين استطلعت آراؤهم في مصر أن الصعوبات الاقتصادية تقف وراء اختيارهم الهجرة، حيث يقبع 60% من الشعب المصري تحت خط الفقر، فيما ارتفعت معدلات البطالة بنسبة 50%.

وتشير تقارير المكتب الإقليمي لهجرة العمل العربية الى هجرة 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء الى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، وان 75% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى أوطانهم، ويتصدر لبنان قائمة المهاجرين من العلماء الى دول الغرب يليه المغرب ومن ثم مصر.

نتائج مسح (الباروميتر العربي) أفضت أيضا إلى أن الأغلبية العظمى من الراغبين في الهجرة في الدول العربية هم من فئة الشباب (بين 18 و29عاما).

اما من الناحية الاجتماعية، قد تشكل الطبقات المعدومة أو الفقيرة الأغلبية الساحقة ضمن الفئات الساعية للهجرة في البلدان المعنية، بحثا عن المستقبل وظروف العمل والضمان، لكنها ليست الفئة الوحيدة، حيث يعمد الأغنياء أيضا إلى البحث عن وجهات للهجرة، إما هربا من أنظمة اقتصادية يعتبرونها جائرة، أو بحثا عن مكان يمكنهم من متابعة أنشطتهم التجارية والمالية بهدوء، ويتمكنون من تحصيل جنسيته فيما بعد، ناهيك عن المهاجرين لأسباب سياسية وفكرية خوفًا من الاضطهاد وبحثا عن حرية التعبير المفقودة في دول احترفت كم أفواه البشر..

على أية حال هذه لمحة سريعة عن مصر ولبنان العاجزين عن تأمين رغيف الخبز لشعبيهما فيما "جارتهما الحدودية اسرائيل" تحرص على كل الحرص ليس على رفاهية شعبها وحسب بل على اتباع استراتيجية تطوير علمي طويلة المدى لتكون من ضمن الدول المنتجة للمعرفة عبر أدمغة ابنائها، فهي تأتي في مقدمة دول العالم الاكثر انفاقًا على الدراسات العلمية، حيث تنفق قرابة 4,5 في المئة من مجمل دخلها القومي السنوي على الأبحاث والتطوير، وهي النسبة التي تترجم إلى أكثر من 10 مليارات دولار سنوياً حيث يتجاوز دخلها القومي 250 مليار دولار سنويا!

وبحسب احصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية تُسجل اسرائيل اكثر من 1000 براءة اختراع في عام واحد وهي تفوق ما أنتجه العرب طيلة الاعوام والذي يقدر بحوالي 850 براءة اختراع.

نعم انه لأمر محزن، وستكون له تداعياته السيئة على المدى العاجل منه والآجل، كون ان معظم دولنا العربية لم تول يومًا جهدا حقيقيا لتطوير البشر قبل الحجر ولم تعمل على الحد من نزيف الأدمغة ولم تبلور رؤية مشرقة للاستثمار بالانسان، بل كان جل همّ قادتها ابقاء الشعوب في دائرة الجهل والفقر لابقاء الشعوب تحت السيطرة، مما كرس انحطاط هذه الدول في زمن المعرفة، وبعد ان استقالت الامة من المشاركة في صنع الحضارة الانسانية فها هي اليوم تتحول الى عبء ثقيل على باقي الامم.