يتلهَّوْنَ بمصائر الناس بحجة الديمقراطية، ويعطلون انتخابات الرئيس بحجة مرتبطة بالديمقراطية، بل تكاد تكون أقرب إلى ما يتفوّه به الطالب الكسول من رفض الذهاب إلى الامتحان إلاَّ إذا كان عارفًا بالأسئلة متأكّدًا من النجاح، متجاهلاً أنَّ للأستاذ حريَّة وضع الأسئلة بناءً على ما أنهى العمل عليه من أهداف إجرائية، وأنَّ للطالب أنْ يذهب إلى الامتحان متوقّعًا الأسئلة والنجاح بالاعتماد على اجتهاده فحسب، وجودة درسه، وإيفائه الدائم بما يُطلب منه من واجبات.
انتخابات رئيس الجمهورية تُقابل بالتعطيل، فلا مجال لعملية انتخابية يذهب فيها المنتخبون غير متأكدين من نجاح من يؤيدون... فلا انتخاب إلاَّ إذا ضُمن النجاح... ولا حجة لأحد إلاَّ ما أعادنا إلى «لافونتين»...
لا يكاد يُكشف هذا السرُّ الذي يُعيد الفكر إلى قصيدة «الذئب والخروف»، ومطلعها بالذات... «لا ريزون دو بلو فور إيه توجور لا مييور» أمّا لماذا كتب العنوان هنا باللغة العربية، والمطلع بالفرنسية بحروف عربية، فالإجابة: لا نعلم... ولا منطق خلف هذا أيضًا، كما لا منطق خلف تعطيل الانتخابات واللعب بمصائر الناس، والأنكى، مستقبل أبنائهم وبلادهم الذي يبدو أنَّه حُرم منذ الساعة من شمس توازيها الحرية يمكن أنْ نطلع إليها كما شدت فيروز!
La Raison du plus fort est toujours la meilleure، بالفعل هي كذلك، في السياسة كما في الحياة العادية... كل قوّة تشرّع الحجة التي تريد إلاَّ واحدةً أحْرِجتْ فأُخرجت بطلقة ثلاثية لا مجال للردّة بعدها... فلقوة المال حجة، ولقوة السلاح حجة، ولقوة الأعمال حجة، ولقوة المراكز حجة، ولقوة الاستخبارات حجة، ولقوة الشرّ حجة، ولقوة الاستبداد حجة، ولقوة الفساد حجج...
كلُّ الحجج سيقت لقواها، ولم يبقَ للتعقّل والأمانة لا قوةً ولا حجة... فدار البلد، والتفت، وتخبّط، وترنّح، وداخ، ولا يزال في مركزه يدور حول نفسه على الرغم من إعياءٍ يدميه، وفقرٍ يشقيه، وذُلٍ يُضنيه... والمُضحك المبكي، أنَّ من يملك أجهزة التحكّم يراقب هذا البلد المفجوع بذاته الذبيحة من خلف شاشة، مبتسم الوجه مفترَّ الثغر عن أسنان تلمع أنيابًا لو تبرّع بتكلفة سنّها لأيقظ في الموات الحياة!
أتساءل أحيانًا عمّا يبتغيه الإنسان من سيرته إذا بلغ كلَّ مجدٍ يمكنه أنْ يطاله... السقف موجود لكلٍ منّا شئنا أم أبينا، نصله قبل أن نراوح في المكان مكدّسين، أو ننزلق إلى القعر إذ «ها هو ذا النجمُ يهوي» كما تراءى لنابليون في الحلم بالضبط... فلمَ يصل البعض السقف، ويراوحون، ويراوحون، مكدّسين مزيدًا من الغنائم والبضائع التي تمسحهم والسقف وتكاد تخطف منهم الأوكسيجين، ومع ذلك، لا يزالون يكدّسون ويختنقون وهم يحاولون إحداث فجوة في السقف... أتراهم يدركون أنَّ السقف إنما هو، بعد الفجوة، قعر جديد؟ هذه شريعة الحياة... لكلِّ حدٍّ وجهين، لا يشبهان وجهي الليرة الذهبية، إذ هما فجر ومغيب، نور وشقاء، وصول وفراق، إنجاز وفشل، مياه عذبة في إبريق من الفخار وبقايا زجاج متناثرة من إبريق كان يحضن ماء شراب...

ولكن، مهلاً، لعلَّ لا فنونتين ليس هو المُستحضر الوحيد عند التفكّر بالانتخابات الرئاسية في لبنان... فقصص المستذئبين ومصاصي الدماء تحضر في الخيال كذلك... صراع بين الطرفين على السيطرة، وحرب تدور رحاها بحريق بشعاع الشمس، أو تحت ستار الظلام... والخاسر الوحيد وإنْ تغيّر المنتصر البشر، لأنَّهم الفريسة في كل الأحوال... والسلم بينهم كسلم يُعقد مع أفعى شقراء برشاء أو ضبع... يدوم، ولكن إلى حين...
وعندما يدخل السحرة في الصراع أو الشياطين، تتصاعد وتيرة العنف في الحرب، وتسقط محاولات عقد الصلح المتذرعة بسهم كيوبيد الذي أصاب قلبين من عالمين مختلفين، وتُسفك الأرواح التي صُكّت من نار أو هواء أو تراب أو سعير، وتُباد التشكيلات الصغيرة، الألفا والغمّا والبتا، والملك، والوريث، كما الأطفال، والنساء، والمزارعين، والمحاربين... ويصطبغ الاقمر بلون الدم، وتفور البراكين... ولا يدفع الثمن ظُلمًا إلاَّ البشر الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما يحدث من حروب بين هذه الجماعات المتناحرة المتباغضة المتعادية المتعاملة مع قوى من خارج هذه الأرض... لماذا من خارج هذه الأرض؟! لأنَّ الأرض جُعلت للإنسان مكانًا يخلف فيه الله عليها، لذلك، كلُّ ابتعاد عن الإنسانية ابتعاد عن أرض الإنسانية... أي هذه الأرض، هذا الكوكب...

ويا ليتك يا أينشتاين لم تمت، وتمكّنت من تحقيق نظريتك تطبيقًا كاملاً متكاملاً، لترسل كل من ترفَّع عن الإنسانية فخُسِف إلى كوكب المنفيين في ذلك البُعْد الذي لا يعود منه من أرسل إليه...