صوت الوجع المتهالك، المثقل بالخيبة والفزع واللارجاء، كرنفال الاستبداد والبطش والقتل اليومي، أزقة الفقر والجوع والبؤس والخوف واليأس. تلك الكلمات ربما تختصر القليل من المأساة السورية بين حديثين لبشار الأسد. الأول كان خطابه، ماي ٢٠١١م، بعد أحداث درعا الدامية، الثاني حديثه لفضائية سكاي نيوز العربية قبل أيام.
ولدى المقارنة بين الحديثين، اللذين يفصلهما مئات الألوف من الضحايا وملايين المهجرين وخراب مئات الألوف من المنازل ودمار مدنٍ، لا نلحظ أيّ تغيير في منطق النظام لدى تعاطيه مع الواقع والمتغيرات، إلا إصراره المتزايد على أنه كان وما زال، على صواب، وكلّ من خالفه هو منحرفٌ ومتآمر.
طوال تلك السنين الدامية والكئيبة، لم يحدث أيّ تغيير في فهم النظام للعالم ونظرته. وعلى الدوام اعتقد أنه الثابت والعالم المحيط به، والمتكالب عليه، هو المتغيّر. وكما ذيّلنا في حينه (مايو 2011، مقاصد الخطاب، بيروت أوبزيرفر) فقد أبى بشار الأسد إلا أن يبرهن على حتمية سقوطه وعدم شرعية نظامه، ومنذ تلك البداية حكم على نفسه وعلى نظامه بالرحيل على منوال من سبقه طغاة العالم، لكن على شكل أكثر دمويّة. ورغم كل ما حدث، وكل هذا الخراب الذي أحاط به، بدا بشار الأسد في حديثه الأخير أنه لم يتعظ من تجارب سابقيه ولم يتعلم، من أخطائهم، أن يتجنب مصيرهم الفاجع، أو على الأقل لم يتعلم أن يتخذ لنفسه أسلوباً أصيلاً في اختيار مصيره أو شكلاً أرقى وأنبل لنهايته. وفي هذه الحال قد لا يكترث التاريخ يوماً لنهايته لأنها ستفتقر إلى التفرد والتميز والابتكار، وستبدو تكراراً مملاً وغير مثير لتجارب الحكام المستبدين الآخرين.
لا يبدو هذا الحاكم متفرداً في شيء، إلا في المصادفة، التي حكمت عليه أن يحكم الآخرين ويستبد بمصائرهم وأقدارهم. وهذه لا تعدّ بالنسبة إليه نعمة، إنما نقمة ظلت تلاحقه طوال سنين حكمه، وظلّ هو يعاني من الشعور الداخلي المزمن بأنه لم يكن في يوم من الأيام جديراً بهذه المكانة وبهذا الدور، إنما الأقدار هي التي قادته إليها. ولهذا ما انفك يجاهد على الدوام ضد هذا الشعور ليثبت العكس للآخرين، إنه القائد الضرورة، الذي اتخذت منه الحكمة التاريخية غاية لها. وفي الحديث الأخير ظهر كمستبد كئيب، جالس على عرش متهالك، وسط أنقاض الخراب والبؤس السوريين، ورغم كل ذلك تفاصح في إظهار هذا الدمار على أنه ذروة البهاء والمجد، وأن مجرد بقاءه وصموده على هذه الأطلال، التي تسمى الدولة السورية، برهان على تلك الضرورة التاريخية.
منذ البداية، فقد مثّل الخطاب الأول مؤشراً على أن النظام استنفد تماماً قدرته الواقعية على التواصل والحوار العقلاني مع الشارع، وبرهن حينها على أنه لا يملك سوى لغة الإدانة والبطش في التعاطي مع مطالب المحتجين. فلم يأت بجديد، حتى من ناحية الشكل، ناهيكم بالمضمون، سوى تلك الترهات البلاغية والتفاصح المعتاد، الذي لا طائل من ورائه، وقد ملّت منه الأسماع من قبل. جلّ مقاصد الخطاب قامت حينها على أمر واحد وتمحورت حوله، هو هو، شيطنة الشعب والمتظاهرين والمحتجين وتأثيمهم، وبالمقابل تنزيه السلطة وتبرئة ساحتها وعدّها الصراط المستقيم، ورمز العدل والصواب، وكل الإطناب الباقي لم يكن سوى زخرفة كلامية و تلوينات بلاغية وحواشي لإكمال النص. والحال إنه في حديثه الأخير فسّر كل ما حدث من من قتل ودمار وخراب مستعيراً مفردات وكلمات الخطاب الأول، سوى إظهار الندم هذه المرة على المرونة، التي زعم تعاطى بها مع المحتجين، فهو نادم على أنه لم يكن أشدّ قسوة وقتلاً.
ثمة استهتار فاضح في سلوك النظام ووعيه بتضحيات الناس ودمائهم. وقد برهن على هذا الاستهتار منذ بداية الحدث السوري وحتى الحديث الأخير. إذ اعتقد، ولم يزل، أنه يمكن إلهاء الشعب وإرضائه بعد كل هذا القتل والقمع المفرط والمهانات بمجرد الكلام الغامض عن الإصلاح والترويج لشعاراته التسويفية. أليس في هذا استعلاء وتحقير عميق لوعي السوريين، ولا مبالاة بشعورهم الإنساني؟
إن مأساة النظام في هذه اللحظة تكمن في عدم ثقته بوعي وإرادة السوريين وقدرتهم على التغيير، وهو ما زال متوهماً، بعد كل هذا النزيف غير المبرر والخراب الذي أحدثته آلة قمعه، أن الأمور على ما يرام. فهو يطالب الشعب بالاستسلام والركون والخنوع والكفّ عن الاحتجاج لأنه أبعد ما يكون عن الثقة بأنّ السوريين قادرون على التغيير وعازمون على صناعة تاريخهم بأنفسهم. وهم لا يحتاجون بعد الآن إلى أيّة وصاية سامية على مصيرهم.
خطاب بشار الأسد الأول وحديثه الأخير، هو خطاب سلطة مأزومة ومفككة بامتياز، معاندة ومكابرة، وتأبى الاعتراف من هذا الموقع بأزمتها وعدم شرعية بقائها. خطاب يفتقر للجرأة والشجاعة اللازمتين في مثل هذه الأحوال، ولا ينقصه شيء كي يكون خطاباً سياسياً سوى منطق واضح يقرّ بالأزمة بدلاً من البلاغة الغامضة والمراوغة والمزايدات الكلامية التي كانت تسوده. ببساطه يمكنه أن يكون أيّ شيء إلا أن يكون خطاب سلطة حاكمة وحكيمة. وفضيلته الوحيدة أنه ينبئ عن سقوط النظام ويمهّد لهذا السقوط دون أمجاد أو مآثر تذكر له، سوى هلاك بلد وتشريد شعب بكامله وقتله. فقد تكفّل الخطاب والحديث الأخير معاً بالبرهنة على إخفاق النظام ليس في مواجهة تحدي التغيير فحسب، وإثبات شرعيته، وإنما في إدراك هذا التحدي والاعتراف به.
بالمقابل كانت الخيبة والمرارة وحدهما من نصيب ممن كان، وما زال، يراهن على نوايا النظام وقدرته على الانتصار على إرادة السوريين وهم الأسوأ حظاً بالتقدير. في حين إن أحداً من السوريين، الذين حسموا خيارهم في التغيير، وقد خبروا نوايا النظام ووعوده ومواعظه، لم يكن يتوقع منه أفضل مما كان.
تلكم هي السمات والخصائص الرئيسة والمشتركة لخطاب الرئيس السوري بشار الأسد الأول وحديثه الأخير. وهي تكمن في المفارقة القائمة بين المقاصد المشتركة للخطابين ونتائجها التراجيدية على أرض الواقع. إذ بينما يستجدي في المناسبتين إقناع الآخرين وكسب ثقتهم بجدوى سياسات نظامه وضرورة بقائه على رأسه، بصفته ممثل الشرعية المنتصرة، أفضىت بلاغته المتصنعة إلى العكس تماماً. وبخلاف ادعائه المعلن بالانتصار على (أعداء الوطن)، فقد أثبت الوقائع إن بقاءه على رأس السلطة واستمراره هو التهديد الوحيد لبقاء بلد وشعب موحد كسوريا. وأن ادعاء الانتصار على (أعداء الوطن) من جانب رأس النظام ليس سوى مكابرة ومراوغة وشعوذة سياسية يراد بها التضليل والخداع، وهي ليست سوى محاولة جديدة لإخضاع الناس وتطويعهم وترهيبهم. فهذا النظام يتوارى وراء شعار الانتصار ليهيمن مجدداً ويستعيد نفوذه كسلطة مستبدة، وينتزع الاعتراف العربي والدولي بشرعيته مجدداً، دون أن يقدّم أيّ تنازل لمطالب السوريين.
هذا هو شأن كل سلطة تعيش هاجس وجودها المهَدّد. إلا أن الخبرات التاريخية والسياسية، للسلطة السورية التي اعتادت، طوال تاريخها، على التعاطي بغطرسة وقسوة مع معارضيها دون أن يردعها شيء، حالت هذه المرة أيضاً دون أن تدرك وتعترف بالمآل، الذي وصلت إليه في أزمتها. وهي في الوقت نفسه تخشى وتتوجس السخط الشامل المتراكم والكامن في الشارع السوري، الذي لم يتجلى بعد بحجمه الحقيقي. وكل سلطة تعجز عن إدراك حقيقة أزمتها على هذا النحو ولا تقرّ بها تفشل في الوصول إلى اكتشاف الوسائل الأنجع للخروج منها. إن السمة المشتركة بين جميع الطغاة عبر التاريخ، هي انفصالهم عن الواقع، والنظر إليه من موقع ذاتي مفرط في الاعتقاد بأن هذا الواقع هو نتاج إرادتهم ورهين رغباتهم المنحرفة، ولهذا السبب نجدهم يفقدون الشعور بالتهديدات والمخاطر المحدقة بنظمهم أكثر فأكثر. والملاحظ أيضاً إنه كلّما دنت آجالها وأشرفت على السقوط، انعدم الحس لديها بالخطر أكثر، وبالمقابل أمعنت في إدعاء القوة والهيبة الزائفة بصورة متطرفة وازدادت غطرسة.
البرهان على سقوطه الحتمي وغياب شرعيته هو الجزية غير المتوقعة، وغير الملزمة، التي قدّمها ويقدمها خطب وأحاديث رأس النظام للسوريين والعالم، عن مكره وجبروته ومزاعمه المراوغة وادعائه بالانتصار على (أعداء الوطن) من أجل إقناع السوريين أن مصلحتهم تكمن في بقائه، وأن أمنهم وازدهارهم رهنٌ باستمراره وصياً متسلطاً عليهم، وأن منفعتهم واستقرارهم الاجتماعي وأمنهم يقتضي في نهاية الأمر تأبيد استبداده، لا تقيّد إرادته أيّ قانون أو شرع دنيوي أو سماوي، وبهذه النتيجة نترك القول الفصل للتاريخ كي يحكم بطريقته الخاصة. لكن إلى ذلك الحين ستظلّ سوريا أنيناً مخنوقاً للكمد والبؤس في ليلها الطويل.
د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية - جامعة كويه
التعليقات