لا يحتاج المرء إلى أي عناء لإثبات أن دولة إسرائيل هي دولة احتلال، دولة إرهاب بالمعايير التي اعتمدتها الأمم المتحدة، وإسرائيل عضو فيها، دولة ابارتهايد بامتياز، دولة نازية بالمنطق الذي يبرر به كل المسؤولين الإسرائيليين مقاربتهم للهولوكوست، وأصبح وجودها كدولة عليه علامة استفهام كبيرة، وفقدت كل المعايير الأخلاقية للدفاع عن شرعيتها.

في مقابل كل ما فعلته وتفعله إسرائيل من جرائم ضد الإنسانية منذ أكثر من سبعة عقود وليس منذ السابع من أكتوبر 2023، ماذا فعلت حماس، وكيف حولت الدمار الذي لحق بقطاع غزة وقتل ما يقارب 15 ألف إنسان أكثر من نصفهم أطفال إلى انتصار عبر مقايضة بائسة وخائبة يتم فيها إطلاق سراح 300 سجين فلسطيني مقابل 50 محتجزاً إسرائيلياً. والسؤال الذي يطرح نفسه هل تستحق كل هذه المأساة ثمن المقايضة الذي دفعته جماهير غزة؟

كل الاعلام الذي يسمي نفسه بإعلام "المقاومة والممانعة" يشرب نخب انتصار حماس المزعوم، وهو انتصار ثمنه هدنة لوقف الحرب لمدة أربعة أيام وقد تتمدد أكثر، وليس مهماً ماذا سيحدث يوم غد، المهم هو "الهدنة" ويضيف إليها قادة حماس أنها فرضت شروطها، التي سوقتها لنا على أنها انتصار عظيم حققته حركة المقاومة الفلسطينية.

ليس جديداً على الإعلام القومي والإسلامي العربي تحويل الهزائم والانكسارات إلى انتصارات عبر استخدام المدافع الإعلامية العملاقة التي يتفرد بها في العالم، وإطلاق الآلاف من الجمل الإنشائية والطنانة لرسم صور خادعة ومزيفة تحجب الحقيقة المرة عن جماهيرها بالدرجة الأولى، وبعد ذلك عن عموم المجتمع، تلك الحقيقة هي ممارستها السياسة المكيافيلية لتحقيق أهدافها.

تلك السياسة تطبقها إسرائيل بحذافيرها، وتسميها في حربها قانون هانيبال، وهو قانون يبيح لها التضحية بمواطنيها وجنودها في سبيل تحقيق مصلحة أمنها القومي، سواء الاستراتيجي او التكتيكي، ونقصد أمن نخبها وأمن دولتها العميقة، وفي نفس السياق تطبق حماس القانون عينه، بحيث حصرت كل معركتها وحربها على إسرائيل في السابع من أكتوبر بصفقة بينها وبين إسرائيل سميت تبادل الرهائن أو المحتجزين أو الأسرى لدى الجانبين، وبغض النظر عن المسميات، فثمنها الموت والدمار والدم الذي يخيم على كل شبر من قطاع غزة.

بعيداً عن كل الجعجعات الإعلامية والطبول الدعائية للطرفين، فإن ما كشفته صفقة تبادل الرهائن والأسرى عن زيف العقيدة السياسية لدى الطرفين، وأن آخر ما يهمهما هو الإنسان، حيث يتبجح نتانياهو بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن أمن مواطنيها، في حين تعلن حماس أن الدافع إلى ما قامت به هو الانتقام ضد الجرائم التي تقترف بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية والأقصى، وكلاهما مستعد لحرق الأخضر واليابس، لا من أجل ما يعلن عنه، بل من أجل تغيير توازنات المعادلة السياسية وتحسين حظوظه في المشهد السياسي. إن الانتصار المزعوم، سواء الذي يعلنه نتنياهو بتأكيده أنه يقترب من هدفه عبر تدمير غزة، أو الذي يعلنه قادة حماس بالوصول إلى هدنة "بشروطهم" ليس أكثر من كذبة كبيرة يحاول كل طرف لملمة جراحه من خلالها، ولكن من يدفع الثمن هم جماهير فلسطين في الضفة الغربية وغزة.

من حق الشعب الفلسطيني مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، واعتماد الأساليب المناسبة لإنهاء الاحتلال البغيض الذي يمارس ظلماً قومياً بكل أنواعه، ولكن يجب أن يبقى الإنسان هو المحور الذي يتم النضال من أجل تحرره وتمتعه بحياة حرة وآمنة وكريمة. إلا أن تسويق صفقة تبادل الأسرى وهدنة الأربعة أيام على أنها انتصار عظيم في مقابل سقوط الالاف المؤلفة من الأبرياء، هو كذبة واضحة. ما نريد قوله إنهم يكذبون على العالم، وقد يطول عمر كذبتهم، بيد أنها لن تصمد إلى الأبد، فها هي إسرائيل قد فضح أمرها وظهرت دولة كريهة وعنصرية، بالرغم من تسويق مظلوميتها بحرفية عالية طوال ثلاثة أرباع قرن. أما حماس، وعندما تحط الحرب أوزارها، فستعرف الجماهير أن ثمن تحرير 300 سجين فلسطيني لا يستحق موت عشرات الآلاف وتدمير أكثر من مئتي ألف وحدة سكنية. لكن بالنسبة إلى حماس، فإن دخولها إلى المعادلة السياسية أو إزاحة منافسيها هو الانتصار الذي سيسوق بأنه انتصار الشعب الفلسطيني وصموده وحركة المقاومة، وسيعزف المطبلون من الأقلام المأجورة التي ترفع الشعار الذي فضحته وحشية إسرائيل على غزة "وحدة ساحات المقاومة" بأن حماس مرغت كرامة الشيطان الأكبر والأصغر بالتراب، وهي تعرف أنه انتصار وهمي.

إن الهدنة التي حدثت، وعنوانها تبادل الأسرى الذي تتلطى الأطراف المتحاربة خلفه، يجب ألا يخفي حقيقة أن الطرفين قد استنزفا بعضهما البعض، وكل ما يقال عن إنه انتصار هو ضرب من السخافات والترهات، فمن فرض الهدنة ليس اسرائيل ولا حماس، بل التظاهرات والاحتجاجات العظيمة التي تجتاح العالم وخاصة البلدان الغربية، والتي أرغمت ساستها المنافقين والكذابين والمتباكين على حقوق الإنسان على رفع الصوت ضد جرائم دولة إسرائيل الفاشية. إنها الجماهير التحررية والمتمدنة التي تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، هي من فرضت الهدنة على الطرفين، وهي القادرة على إنهاء الحرب، وكذلك إحلال السلام عبر دعم تأسيس دولة فلسطينية مستقلة تنهي عقوداً من الظلم القومي السافر وسياسة الابارتهايد.