"من رحم المعاناة يولد الأمل"؛ تعبير بسيط لكنه يحمل معاني كثيرة، تجسد حالة الصبر والإيمان التي يتحلى بها أهالي غزة، الجالسين وسط أنقاض منازلهم، ينتظرون الموت في كل لحظة، تخترق مسامعهم أصوات الانفجارات المدوية، التي أصبحت شريكًا أساسيًا لهم في الحياة اليومية، يشاهدون دماء وجثث أقرب الناس إليهم، ولا يملكون سوى الصراخ والبكاء، والدعاء للمولى عز وجل بأن يرحم من سالت دمائه غدرًا، دون ذنب.

قد نختلف على الكثير من التفاصيل، لكننا نتفق حتماً على أن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله أبداً. عائلات فقدت أحباءها وأخرى مُحيت كاملة من السجل المدني، وأصيب الأبرياء في أنفسهم وأمنهم وأموالهم وأملاكهم، وبالرغم من كل هذه الفظائع، لديهم الإيمان بحتمية النصر.

ما يحدث في غزة يبعث على الإحباط واليأس بالنسبة إلى من يتابع مجريات الحرب على الشاشة. لكن من يعش وسط الخراب والدماء والموت المنتظر، لديه أمل وعزيمة وإيمان بأن النصر آت لا محالة، ما يؤكد للقاصي والداني أن الشعب الفلسطيني "حي لا يموت".

على مدار سنوات طويلة، مارست دولة الاحتلال كل أنواع الضغوط، فلم تكن الحرب مجرد أسلحة تستخدمها لإرهاب وقتل المدنيين العُزل، وإنما شنت حربًا نفسية، أرادت منها كسر عزيمة الفلسطينيين، الذين صمدوا ولقنوا الاحتلال دروسًا على مر التاريخ، بأنهم لن يتركوا أرضهم ولا قضيتهم، حتى بلوغ النصر مهما كلف الأمر.

يظن جيش الاحتلال أنه بهدم المنازل بالصواريخ والدبابات، وإجبار أكثر من مليون فلسطيني على النزوح من الشمال والمنطقة الوسطى إلى جنوب القطاع، ومناطق متفرقة أخرى، في ظل حرب نفسية هدفها التهجير القسري إلى خارج قطاع غزة، أنه بذلك قطع شوطًا نحو تحقيق النصر.

ويواجه الفلسطينيون أزمات طاحنة كبرى للحصول على الماء والأدوية والوقود والاتصالات والإنترنت وشحن البطاريات، في معارك يومية طاحنة، فنجد مهزومًا ومنتصرًا في معركة الخبز، ولكن لن نجد منتصرًا واحدًا في غزة في معركة تأمين أطفاله من الموت المتربص عند كل شهيق قد لا يتلوه زفير. تجد من غادر طلبًا للسلامة قد ذهب لحتفه، وتسمع عن عائلات كاملة قد شطبت من سجل الأحياء، وتسمع قصصًا لم تكن لتسمعها سوى فى كتب الخيال عن مفارقات الموت والحياة، لتتأكد أنَّ الموت والحياة في غزة شيئ واحد.

لدى الفلسطيني عقيدة راسخة وحلم بالعودة إلى الأرض التي انتزع منها جبراً. فالارتباط بهذه البقعة يجري في شرايين شعب فلسطين، الذي أصبح مدركاً أنه يواجه حرب إبادة هدفها طرده من أرضه، وتصفية قضيَّة دفُع فيها ثمن باهظ من أرواح أرادت الحياة في طمأنينة، وكتب لها القدر الموت في حرب غير متكافئة، تجمع جيشًا طاغياً يتمتع بحصانة من الزاعمين بأنهم حُماة الإنسانية، بشعب أعزل يقف بنسائه وأطفاله وشبابه وشيوخه أمام الدبابات دون خوف أو فزع.

إن التحديات التي فرضتها الحرب على غزة لم تمنع أصحاب الأرض من الحلم بالتعايش السلمي، بالرغم من أنهم ينتظرون الموت في كل لحظة، يتشاركون اللحظات والأيام العصيبة التي لم تكن جديدة عليهم، لكنها أشد وأعنف مما سبقها، ويجلسون سويًا ويتبادلون أطراف الحديث عن مصير لم تتضح وجهته، وسط الحرب الضروس.