بغض النظر عن أنني لم أتقيد بحدود ضيقة عند كتابة الكتب، وبعض المقالات الواسعة أو الدراسات، والتي احتفظ بهم ضمن أرشيفي، حرصت كثيراً على عدم تجاوز منهجية الحرص الوطني عند كتابة معظم مقالاتي اليومية، والتي لم أتخلّ فيها يوماً عن تعويم قضيتنا القومية على المصالح الحزبية، ولم أعرض رؤية أو تحليلاً أو نقداً في الإشكاليات الكوردستانية، وخاصة المتعلقة بالخلافات الداخلية، قبل أن أسأل نفسي ما الهدف من النشر، والغاية التي أطمح إليها؟ وما هي الإيجابيات المتوقعة من عرض المقال على العامة؟ هل تسودها سمات التهجم والطعن؟ أم تطغى النصيحة والتوعية وتدرج كمحاولة لتصحيح وتنوير المسارات؟ هل ستساعد على التقارب الكوردي-الكوردي، أم ستزيد شرخ الخلافات اتساعاً؟ ومن دون أن أبالي بمدى اهتمام الحراك الحزبي بالمطروح حاضراً من عدمه، فما يهمني هو عرض المفهوم أو الإشكالية من دون تحيز حزبي، والذي قد يترك تأثيراً على رؤية المجتمع في القادم من الزمن.

منذ سنوات، وأنا أتوجه إلى الداخل الكوردي وحراكه الحزبي أو الثقافي، وإلى الإدارتين، في كتاباتي وحواراتي بالدبلوماسية المرنة، وهي من سمات سياسة العصر، وأرجح اللباقة في النقد حتى ولو كان حاداً على النقد السلبي. مع ذلك، كثيراً ما أتلقى ردوداً فجة وتهماً من عناصر طرفي الاستقطاب الحزبي الكوردي بالانحياز إلى الطرف الآخر أو دعمه، والطرف الآخر يتغير حسب تناولي للإشكالية المثارة، أو عند نقد سلبية هنا أو دعم إيجابية هناك، وبذلك أكون قد بنيت، حسب مفاهيمهم، داراً في الجهة المقابلة، وأهدمه بعد عرضي لإشكالية أخرى لأبنيه في الجهة الأخرى، وهنا يتناسون القضية القومية والوطنية.

حتى اليوم، لم أنشر كتاباً من كتبي المستلقية في أرشيفي، لأنني كما ذكرت لا أتعامل مع القضايا الجارية بتحفظ، على قدر ما أحرص عليه في مقالاتي اليومية. ففي الأولى أرجح القادم، وحيث بناء الركيزة الثقافية، وفي البعد الثاني أبحث عن الحاضر ومجرياته، والذي لن يكون لنا من مستقبل دونه، وأسأل ذاتي ما مدى فائدة كتبي لحاضرنا المدمر، مقارنة بما يتطلب منا إنجازه من خلال التعامل اليومي مع الواقع، لتعويم القضية الوطنية والقومية على الخلافات الحزبية الكارثية، الخلافات التي تدمر الحاضر والمستقبل معاً.

العمل على كيفية مواجهة مؤامرات الأعداء الجارية لا تنتظر مجلدات لفضحها أو مواجهتها، بل كتابات ونشاطات يومية تنور الدروب السياسية المعتمة أمام مجتمعنا وحراكنا، ولا شك في أنَّ ما تحتضنه الكتب القيمة من الأسس المتينة لبناء ثقافة عصرية تنور الشعب، هو الأفضل للأجيال القادمة على المدى البعيد. لكننا، وبما أننا اليوم في مرحلة التحرر وحيث الصراع اليومي مع الداخل والخارج، فالكتابات اليومية لها سلطتها في هذه المرحلة الحرجة، والتي قد تزول بعد زوال المرحلة والإشكالية، ولذلك لا بد من التمعن في متنها وإلى ماذا تهدف قبل نشرها، وعدم التوقف عند التهجم العشوائي من مريدي طرفي الاستقطاب، الـ "ب ي د" وأحزاب المجلس الوطني الكوردي.

لا شك في أنَّ هناك بعض الأخوة من الحراك الثقافي والسياسي يشاركونني هذا الأسلوب في الكتابة، وعدم الانحياز إلى قطبي الخلافات المدمر للذات قبل القضية، والتي لها صوتها، علماً أنها الشريحة الأقل حضوراً في المجتمع، والأكثر رفضاً وتجافياً من قبل أغلبية الحراك الحزبي. جلّنا يدرك أنَّ قلة الاهتمام بهم وبما يطرحونه حالة طبيعية، لإن أصحاب الأقلام التي لا تجاري طرفي الاستقطاب، ولا تنحاز إلى معاركهم، ولا تحمل أسلحة أحد الأطراف ضد الآخر، تهمل إما عن عمد أو لبساطة المجتمع، لكنها الشريحة الناجحة على المدى الطويل ومفاهيمها هي الرابحة، إن لم تكن تنويرية اليوم فهي التي ستخلق الحركة التنويرية غداً، ومن المعروف أن جميع الحركات التنويرية في التاريخ كانت شبه منسية في بداياتها، لأن غاياتهم أسمى من أن تتأثر باعتراضات بعض الجهلاء.

توجهت بالنقد في الماضي، بقسوة ومن دون تحفظ أو دبلوماسية، وهاجمت أحياناً، وبشكل مباشر، أخطاء الحراك الحزبي الكوردي من دون تحفظ، لكن تبين لي، بعد سنوات، خطأ أسلوب كان يزيد من شرخ الخلافات ويعمق العداوة، فالفرصة تكاد أن تضيع ونحن لا زلنا نتناول قضايانا بالأساليب الكلاسيكية الضحلة، التي تضر أكثر مما تنفع، كما وجدت أنَّ الأعداء يسبقوننا بمراحل في طرق معالجة قضيتنا ومحاربتنا. لقد وضعوا على سبيل المثال مصطلحات فضفاضة مكان النظام الفيدرالي، ونشروا مفهوم المواطنة لاحتضان الكورد ضمن الوطن السوري اللقيط، وغيرها من الطروحات المخادعة، ونحن بالمقابل استمرينا نواجههم مثلما نتعامل مع بعضنا البعض بمنهجية متخلفة ومهترئة.

انتبهت، بعد سنوات، أنه لا بد من اتباع أساليب عصرية في معالجة قضايانا القومية والوطنية، تتلاءم والمرحلة، لنكون أقدر على مواجهة المفاهيم المخادعة التي يتم نشرها بين الكورد من قبل المكونات السورية الأخرى، بشرط ألا يكون الهدم غايتنا، سواء أكان على مستوى سوريا أو مستوى الحركة التحررية الكوردية، بل التوعية والتنوير وتصحيح المسارات، وعدم الانحياز الأعمى لأي جهة من طرفي الاستقطاب الحزبي المفروضين على الشعب، والوقوف في وجه خلافاتهم الحزبية، ونشر الوعي السياسي. ولربما لا زالت أساليب المعالجة دون المطلوب، لكن الرؤية واضحة، فليتنا نساعد بعضنا بعضاً لخلق نقلة نوعية في طرق تناولنا قضايانا.