تخيّل أيها المتلقي للرسائل الإعلامية أن مواسم الأخبار وصناعتها قد أفِلت وغادرت أوقات البث الفضائي؛ تصور عالماً بلا أخبار أو أحاديث السياسيين عن الفساد والنزاهة والوطنية؛ تخيل أن صُنّاع الأخبار في الفضائيات لم يعودوا يهتمون بأحاديث السياسة وأكاذيبها؛ فكيف سيكون واقع الحال للبث الفضائي؟ وبماذا ستغطي الفضائيات في بلدنا ساعات بثها المتواصل؟ كيف يمكن الاستغناء عن صناعة الخبر في الفضائيات، وهو عمود الإعلام؟

في العراق، لدينا فضائيات تعتاش على أحاديث السياسيين ومراهقة الفاعلين في المنظومة الحاكمة وفسادهم، تبتز هذا وتنافق ذاك، ليس اعتباطاً لكن من أجل حصتها من مغانم الفساد. فضائيات أصبحت هي القاضي والجلاد في ملفات النهب العام، أصبح يقف أمام كاميرات ستوديوهاتها الجميع بلا استثناء، وكلٌ يعرض بضاعته للجمهور المتفرج، على أن يكون للمشاهدين وعقولهم حرية انتقاء ما يمكن أن يكون حديث الساعة أو يمر الخبر مرور الكرام.

فضائيات تعرض للرأي العام أنواعاً شتى من فاسدين، ولصوص، ودُعاة وطنية وأصحاب نزاهة، وحتى أرباب سوابق لعرض بضاعتهم بعد أن تحولت هذه الفضائيات إلى محاكم وأروقة للقضاء للنطق بالحكم.

بعض السياسيين أصبحوا مشاهير أكثر من نجوم الفن والرياضة لكثرة تواجدهم في تلك الاستوديوهات، وظهورهم من على شاشات تلك الفضائيات. يعرضون بضاعتهم مقابل ثمن مدفوع سلفاً لهذه القناة أو حتى مقابل نصيب لها من غنائم الابتزاز. هو الإعلام الذي فسد وأفسد، هي الغاية التي ترتقي إلى سياسة التجهيل وإلغاء العقل.

الفضائيات العراقية تحول بعضها إلى سوق رائجة للتشهير بملفات الفساد بديلاً عن أروقة القضاء والإفصاح عنها وكأنها سوق للجواري لعرض بضاعة الأجساد.

وصفوه بالسلطة الرابعة حين وضعوه إلى جنب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهو يستحق الوصف والسلطة لمّا كانت الكلمة تصنع الثورات، وقلم الكاتب يُحدث التغيير.

من سوء عاقبة الإعلام العراقي بعد عام 2003، والذي لم ينجُ من الفوضى والتخريب الذي امتدت إليه يد من يريد التلاعب بعقول وشخصية الفرد العراقي، فأصبح الغالب منه شريكاً بالفساد، ومن عجائب قصصه أن ترى مقدمي ومقدمات برامج نجوماً في حكايات النهب وابتزاز الضيوف من خلال الترويج لبضاعتهم الفاسدة.

ظاهرة الإعلام الكاسد الذي أوجدته منظومة سياسية فاشلة، حيث يستخدم هذا النوع في الترويج ودعم المسؤول الفاشل وتسجيل نجاح زائف له، ليصبح هذا النوع من أخطر أدوات التخريب في المجتمع.

في ظل إعلام يطغى عليه الفساد، أصبح كل خبر مشكوك في مصداقيته ومريب في حقيقته، في ذلك الإعلام تنقلب الأمور ويضيع الصدق من الكذب ليصبح كل شيء ممكن بين الزيف والحقيقة، وهنا يكمن عامل التخريب والتفتيت لعقول المجتمع.

يُقال في الحكايات الشعبية "أن أحد الأشخاص كان يملك خروفاً أراد بيعه، فأخذه إلى السوق فرآه أربعة لصوص اتفقوا على سرقة خروفه بأسلوب ذكي، فتقاسموا الجلوس على جانب الطريق المؤدي إلى السوق الذي سيمر عليه صاحب الخروف، فجلس الأول بداية الطريق المؤدي للسوق، وجلس الثاني في ربع الطريق، والثالث بعد منتصف الطريق، وجلس الرابع قبل نهاية الطريق بقليل. مر صاحب الخروف من أمام اللص الأول وبعد السلام عليه بادره بالسؤال: لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك؟ فالتفت صاحب الخروف إلى اللص وقال له: هذا ليس كلباً إنه خروف، سأذهب لبيعه في السوق، ثم تركه وانصرف. وبعد مسافة التقى باللص الثاني وتكرر نفس السؤال والجواب، حينها بدأ الشك يتسرب إلى عقل الرجل، فأخذ يتحسس الخروف ليتأكد هل هو كلب فعلاً كما سمع من الرجلين السابقين أم أنه خروف كما يعتقد هو؟ وبعد مسافة التقى اللص الثالث ليتكرر السيناريو ذاته. اندهش صاحب الخروف، وازدادت حيرته، ونظر إلى اللص وانصرف ولم يجبه على سؤاله. بعد لقائه اللص الرابع، أيقن الرجل أنه يقود كلباً. عند سؤاله ما بك يا رجل تربط الكلب وتقوده خلفك فليس من المعقول أن يكون الأربعة كاذبين، التفت الرجل إلى اللص الرابع وقال: لقد كنت في عجلة من أمري فاعتقدت الكلب خروفاً فربطته لأذهب به إلى السوق، ولم يتبين لي أنه كلب، ثم فك وثاق الخروف وأطلق سراحه وعاد مستعجلاً إلى بيته للبحث عن خروفه الضائع، فيما كان ذلك الخروف غنيمة هؤلاء اللصوص وهم فرحين". وذلك هو مصطلح صناعة الوهم أو فن التلاعب بالعقول الذي يريدون إستدراج الشعب إليه.