على كل من يعتبر نفسه عراقي الهوية ومنتمياً الى بلدٍ بحجم وتاريخ العراق وحضارته، أن يعي أن هناك منظومة إصطلاحية خاصة ومتميزة يمكن العودة إليها - إذا ما أردنا ذلك! - لتعبير عصري وعقلاني عن كل القضايا العراقية وشؤون البلد وشجونه. وأن هذه المنظومة تختلف كلياً عن الجهاز المفاهيمي الأيديولوجي أو العرقي أو الطائفي الكلاسيكي السائد حالياً في العراق والمعمول به عادةً لتسمية أحداث البلاد أو أزماتها ومآزقها، ومقاربة أحوال العباد أو مشاكلها وصراعاتها.

كما علينا أن نفهم أيضاً أنَّ هذه المنظومة الإصطلاحية لا يُفقِهها أحد بسهولة أو قادر على ترجمتها عملياً وبدون وجع الرأس، إلا أولئك الذين تحرووا نوعاً ما من قيود التحزب الأعمى، أو الذين يتمتعون بتفكير نقدي تجاه المسلمات والوقائع، أو الأحداث والفضائح، ولا ينخدعون بما تغرسها الثقافة السياسية الاستهلاكية اليومية في بواطن عقولنا، الفاقدة منذ زمن لأي مناعة معرفية بفعل طغيان آيديولوجيات الإكراه وعقليات الشيطنة والإقصاء.

ومن هذا المنطلق برأيي يمكن أن ينطلق التفكير أيضاً في عبارة "الخلافات" بين بغداد وأربيل ومقاربتها نقدياً، فما بالك إذا ما وصل الأمر معنا الى ملاحظة ظاهرة ترديد عبارة "الخلافات" كشيء عادي ومُسَلَّم به! في حين أن بمجرد القبول بها أو ترسيخها في قاموس السياسة في هذا البلد والإعلام العراقي كما هو الحال، فإنَّ ذلك بمثابة تخدير العقل وتعطيله تماماً، بل تسطيح الرؤية والعبارة معاً الى أدنى مستوياتهما اليومية، المتأثرة بمشاهد كيدية ووقائع مفروضة، أو مفاهيم وقواميس ملغومة لاتجدها إلا في جعبة الأحزاب والقوى، التي تتحكم بعقولنا وسلوكنا السياسي وبواقعنا المتأزم عبر فضائيات الفتنة وخطابات التجنيد ضد بعضنا البعض.

نعم أن التسليم بعبارة الخلافات بين بغداد وأربيل وبكل هذه السهولة، لا يعني في مدلوله العميق شيئاً سوى تعرية انعدام قدرتنا في تجاوز الفتن، وتعذر التعبير عما تمليه المنظومة الإصطلاحية الوطنية الوئامية على نظام تسمياتنا التقليدية لعالم الأشياء والوقائع، وإخفاقنا الفكري في تقديم بدائل تعبيرية تحث الأطراف السياسية ومؤسسات الدولة ومرافقها على بناء إرادة المشتركات وتوسيع قاعدة التفاهمات بين أبناء البلد الواحد وممثليهم السياسيين. إنَّه، بأوضح العبارات، بمثابة الهروب من مسؤوليات معنوية تفرزها روح الوطنية وتُحوَلِها تدريجياً إلى عادات لغوية ومبادئء تعبيرية منفتحة بوجه سُبل التفاهم ومُجهضة في الوقت ذاته لإمكانية توليد الفتن على مستوى الخطاب وتفشيها في عقول أصحاب القرار والمتنفذين في البلد وفي توجهات الناس عموماً.

إقرأ أيضاً: وضع العراق وكردستان بعد الانسحاب الأميركي

بتعبير آخر، علينا أن نفهم مجدداً أنَّ بغداد وأربيل ليستا عاصمتين لبلدين مختلفين؛ الأولى هي مفخرة حضارية وتاريخية لجميع العراقيين، والثانية عاصمة الإعمار والإزدهار ورمز من رموز إقليم كردستان العراق الذي نلجأ إليه جميعاً في السراء والضراء!، وهو الواقع في شمال الوطن لا في أي بقعة أخرى، فضلاً عن أن أربيل كترميز معنوي للتعبير عن عموم الإقيم هو رمز مُعبر عن العراق الجديد، وممثل إداري ورسمي لموطن دستوري ضمن نظام سياسي اتحادي تم اقراره باستفتاء شعبي وبتصويت ديمقراطي لدستور العراق الدائم.

وبهذا المعنى، يمكن القول وباختصار شديد، نحن دوماً أمام شأن وطني داخلي واستحقاق سياسي بامتياز، يتعذر اليوم تسويته إلا عبر هذه الثقافة الوطنية الراقية في التعاطي مع شؤوننا الداخلية، لا سيَّما أنَّ الأمر أساساً ليس مرتبطاً بوجود طرف أجنبي لا بالنسبة إلى بغداد ولا أربيل، وإنما الشأن متعلق حصراً بـ(أنا) فقط لا بـ(الآخر)، وكل من يتجاهل هذه الحقيقة الدامغة فهو غير عراقي ولا يمكن الوثوق بادعاءاته أو شعاراته الوحدوية.

إقرأ أيضاً: العراق والمشي على حبل مشدود

وبناءً على هذه المسلمة في تخيل الهوية والماهية، يتوجب علينا دون أدنى ريب إعادة النظر في عبارة الخلافات بين أربيل وبغداد، حتى وإن بات هذا التعبير متداولاً على الصعيد الإعلامي ومتعارفاً عليها سياسياً بفعل القبول غير النقدي به، واعتبار هذا الموضوع قطعاً، على أنه مسألة تتعلق بوجود وجهات نظر مختلفة ما تزال بحاجة إلى المزيد من النقاش والتباحث بين أبناء البلد الواحد، إلى أن يتوصل الجميع في نهاية الأمر إلى توحيد تام ومرض للمواقف والآراء حول كافة الملفات العالقة بين الطرفين بل تصفير المشاكل نهائياً.