لا نتحدث عن قلة وفاء العراقيين ونكرانهم لجميل أميركا في إسقاط نظام صدام حسين الدموي ووصول النخبة الحالية، وخصوصاً قيادات الشيعة، إلى سدة الحكم في العراق، وهو كان حلماً بعيد المنال بل وضرباً من المستحيل. ولا نتحدث أيضاً عن العملية الديمقراطية التي رسمها الأميركان لعراق ما بعد صدام، من خلال سن دستور ينعم العراقيين في ظله ولأول مرة في تاريخهم القديم والحديث بحرية الانتخاب والتمثيل في مؤسسات الدولة، فهذه مكتسبات تاريخية تحققت للمواطن العراقي غير الجاحد للدور الأميركي. ولا ننسى في هذه المناسبة أن نشير إلى أن العراقيين طالما تنكروا لمن أراد لهم الخير والسؤدد؛ ألم يكونوا هم من خذلوا الأمام علي بن أبي طالب، وخانوا ولده الحسين الشهيد الذي يتباكون عليه منذ أربعة عشر قرناً؟!
لندع هذه الأمور يحكمها التاريخ، ولندخل في صلب موضوعنا، وهو الضجة الكبرى التي تحدث اليوم في العراق حول إخراج الأميركان من البلاد وتداعياتها الخطيرة بنظرنا.
مما لا شك فيه أنَّ الأميركان يتزعمون حالياً قيادة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الارهابي، الذي انتزع في فترة ما ثلث أراضي العراق وأنشأ عليها دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، وساهم هذا التحالف الدولي من خلال ضربات عسكرية متلاحقة في إضعاف هذا التنظيم الارهابي، ثم طرده من داخل العراق ما عدا بعض الفلول الصغيرة المتبقية هنا وهناك والتي لا تشكل تهديداً كبيراً للعملية السياسية في العراق. وكان الوجود الأميركي في العراق قد حال بين عامي 2006 و2007 دون انزلاق البلاد في الحرب الطائفية، التي أراد إشعالها بعض أقطاب الحكم من السنة والشيعة لحسم الصراع على السلطة. ولا يمكن التغافل أيضاً عن دور الجيش الأميركي في السنوات اللاحقة لسقوط صدام لمحاربة تنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي.
إذن، أن الأمن والاستقرار الذي ينعم به العراقيون منذ ما يقرب عشر سنوات إنما كان ثمرة جهود وتضحيات الجيش الأميركي المتواجد في العراق، وكان هذا التواجد بمثابة جدار الصد لعودة التنظيمات الإرهابية لتهديد العراق وتقويض عمليته الديمقراطية التي هي ككل عملية ناشئة في بلدان الشرق الأوسط يشوبها طبعاً الكثير من الاخفاقات والأزمات الحادة، ولكن انزلاق القوى العراقية الشيعية للمستنقع الايراني وارتباط القوى السنية بالأجندات العربية، والتحالف المشين للسلطة الحاكمة في اقليم كردستان وعلى وجه الخصوص الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني مع النظام التركي الفاشي، كل هذه الارتباطات الخارجية المشبوهة جعلت من العراق ساحة للصراع الداخلي والاقليمي ينذر في قادم الأيام باندلاع حرب لا تبقي ولا تذر في غياب التواجد الأميركي.
دعونا نتأمل ما سيحدث في حال غياب الظل الأمريكي في البلاد.
- ستتجدد تهديدات التنظيمات الارهابية وفي مقدمتها داعش الذي سيجد الساحة خالية أمامه من أي قوة دولية وسيعود إلى احتلال الأراضي العراقية مجدداً بدعم وتمويل من الأطراف المعادية للعراق ولا نريد تسميتها في الوقت الحاضر لحساسية الموضوع.
- سوف تستغل إيران غياب أميركا من المشهد لتزيد من حجم ووتيرة تدخلاتها في شؤون العراق، وهذا ما سيستفز القوى السنية والدول المجاورة التي لها حساباتها ومصالحها في العراق والتي لن تقف طبعا مكبلة الأيدي في احتلال العراق من قبل ايران احتلالاً فعلياً.
- قد تستغل الحكومة التركية غياب الأميركان للتوسع والتوغل أكثر داخل الأراضي العراقية، خصوصاً عندما تكون السلطة العراقية أكثر ضعفاً مما هي عليه اليوم، ولا يستبعد تصعيد عملياتها العسكرية البرية داخل الأراضي العراقية وصولاً إلى كركوك التي تعتبرها تركيا محافظة تركمانية خالصة، ما يشجعها على تجديد مطالبتها بولاية الموصل.
إقرأ أيضاً: هل يستحق الكردي الموت؟
- سيسهم الغياب الأميركي في دفع القوى الشيعية الحاكمة إلى المزيد من التشدد والضغط على الجانب الكردي والسعي لإضعافه ثم إفشال تجربته بالحكم الذاتي، وستتوالى تهديداتها وتحرشاتها عبر سلسلة قرارات من المحكمة الاتحادية، وقد يصل الأمر إلى حد استخدام قوات الحشد الشعبي لفرض تلك القرارات، كما حدث أثناء الهجوم الكبير على كركوك والمناطق المتنازعة واخراجها من يد السلطة الكردية.
- سوف تستغل القوى التي تسمي نفسها بالمقاومة الإسلامية غياب الدفاعات الأميركية في معسكر حرير وقرب مطار أربيل لتوجيه مسيراتها وصواريخها بشكل أكثر كثافة، وقد يصل الأمر إلى تدمير أو وقف تشغيل مطار أربيل، وقد تتطور الأمور إلى حد قصف وضرب المواقع الحساسة للحكم ومؤسسات الحكومة والآبار النفطية وحقول الغاز، مما يؤدي إلى خنق شعب كردستان اقتصادياً وبث الفوضى في الإقليم.
- لن تكون تداعيات الانسحاب الأميركي من العراق بأقل سوءاً من الانسحاب من أفغانستان، التي تحولت بمجرد مغادرة القوات الأميركية إلى الخراب والدمار، وعلينا ألا نستبعد حتى احتمالية عودة حزب البعث إلى السلطة أو انسلاخ أجزاء من أراضي العراق واحتلالها مجددا من قبل تنظيم داعش الإرهابي.
إقرأ أيضاً: تذكرة ذهبية للمستقبل
التواجد الأميركي في كل من اليابان وألمانيا ما زال مستمراً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال ثمانين سنة الماضية ينعم البلدان بالأمن والاستقرار في ظل الحماية الأميركية، ويصرفان كل جهودهما نحو البناء والتقدم، وأصبح البلدان خلال فترة قياسية بفضل الاستقرار الأمني والسياسي أكبر اقتصادين عالميين، وأغنى دولتين على مستوى العالم. أفلا يفترض بالعراق وهو يمتلك ثروات طبيعية هائلة وموارد بشرية ضخمة أن يقتدي بهاتين الدولتين، ويعمل على بناء ما هدمته الحروب المتتالية، وإخراج شعبه من حالة التخلف المريع، وانقاذه من مخاطر الجوع والعوز، بدل زج البلاد مرة أخرى في أتون حروب طائفية وعنصرية وإقليمية، ستحول العراق إلى مجرد أطلال، لا ينفع عندها رثاء الشعراء أو بكاء العراقيين لأربعة عشر قرناً آخر حسرة على ضياعه.
التعليقات