العبودية صناعة احترافية متقنة، أي أنها لا تأتي فجأة أو بالصدفة، ولا يمكن وصفها بغير هذا الوصف الصناعي، ويمكن معرفة أغوارها من خلال الاطلاع على تفاصيل هذه الصناعة ذات التأريخ الطويل في حياة البشر. دائماً ننتقد سلوكيات القطيع ونعيبها، لكن للأسف تنقصنا معرفة أن مفردة القطيع تمثل أسوأ أنواع العبودية؛ ظاهرها عبودية طوعية وحقيقتها صناعة متقنة في دهاليز الظلام. إنها عبودية قهرية، وهي أدهى أنواع الهندسة الصناعية في تحويل البشر إلى دواب.

فلنأخذ سرداً تأريخياً لصناعة العبودية، ثم لنتعرف على نسبة العبودية في أنفسنا وفي مجتمعاتنا. من يظن منا أنه حر بشكل مطلق، فهو يجهل حقيقة نفسه. العبودية محيطة بنا بأشكال وألوان مختلفة، ونعيب فقط ما ظهر منها، ونغض الطرف عما بطن وعن الأنواع التي هي أكثر عيباً. أكثر الموروثات الاجتماعية والدينية مشبعة بالعبودية؛ أكثر الأفكار التي نتداولها في حياتنا اليومية فيها شوائب العبودية؛ الكراهية التي تغزو عقولنا هي بحد ذاتها عبودية.

الحروب هي إحدى الطرق الكلاسيكية لصناعة العبودية؛ الطرف المنتصر بالتأكيد ستكون له سلطة وأمر على الطرف المهزوم، يتلاعب بماله وحلاله وأرضه وعرضه، وقد يجعل الطرف المنتصر من الطرف المهزوم عبداً له، وهذه هي إحدى الطرق التي تعلمها الإنسان منذ فجر التأريخ لاستعباد الآخرين بالقوة مباشرة. هناك بديهية تتولد من العبودية بمرور الزمن، وهي أنَّ العبيد بعد سنين طويلة من العبودية تدمن أدمغتهم العبودية، وتروق لهم، فيتكيفون معها ويتوارثونها كنوع من التقاليد الاجتماعية العريقة، بعدها يقومون بالدفاع عنها والتضحية من أجلها. فمثلاً العبيد عند الإقطاعين يتفاخرون بأنهم من أتباع الإقطاعي أو الشيخ فلان الفلاني، أما الطرف المستعبد، أو الإقطاعي، فهو الآخر بعد طول السنين يصبح غير قادر على العيش بدون وجود العبيد تحت يديه، فلو فقد العبيد سيفعل المستحيل لصناعة عبيد آخرين.

إقرأ أيضاً: هكذا بدّد بوتين أحلام الغرب... واستفاد من وجود "فاغنر" في بيلاروسيا

صناعة العبيد عند الحكام الطواغيت، هي طريقة أخرى اعتاد عليها الحكام الذين يستطيعون تسخير إمكانيات الدولة والاستحواذ عليها ومن ثم فرض سيطرتهم وتحويل جموع الناس إلى عبيد لهم، ولنا أمثلة كثيرة في التأريخ. وهناك طرق أخرى لصناعة العبيد منها عن طريق التحكم بالأموال والأرزاق، وهذا ما نراه عند الشركات الاحتكارية والبنوك وأرباب العمل، لكن الطريقة الدينية تبقى هي الأقوى على طول التأريخ؛ صحيح أن الدين يدعو إلى تحرير الإنسان وإعطاء العبودية لله فقط، ولكن السر يكمن في كيفية تحويل العبودية لله إلى عبودية الرمز ثم عبودية الإنسان، فالقصة تبدأ بعد رحيل الأنبياء وخروج من يسمون أنفسهم ورثة الأنبياء، وهم طبقة رجال الدين الذين يحرصون على الحفاظ على الدين، وبما أن رجال الدين لا يمتلكون الصلة الإيحائية بالله، فإنهم يسعون إلى إعطاء أنفسهم القدسية ليكونوا الوسطاء بين الله والناس، فيدعون إلى عبادة الله عن طريقهم، والتي تتحول تدريجياً إلى عبادة رجال الدين (المقصود برجال الدين الذين يسعون إلى السلطة والتسلط وليس جميع رجال الدين). لا تكتمل عبودية رجال الدين ما لم تكن لهم قدسية في نفوس الناس، ومن المستحيل أن تتقبل جموع الناس قدسية رجال الدين ما لم تكن هناك أكاذيب ونصوص مصطنعة تنسب للأنبياء تعظم من شأن رجال الدين وتعطي لهم القدسية. عبودية رجال الدين تصل إلى أوجها عندما يستطيع رجل الدين أن يتحكم بالجنة والنار بالنسبة للآخرة، ويستطيع التحكم بتفاصيل حياة الناس في الدنيا. وحتى قبول الأعمال عند الله يمر من خلالهم، أي بمعنى أنها عبودية أبدية لأن فيها وكالة من الله كما يدعون.

إقرأ أيضاً: "الممر الشمالي" الروسي: متنفس "الحزام الطريق"؟

السؤال هنا، لماذا نعتبر عبودية رجال الدين للناس هي الأخطر؟ هذا السؤال يشرح جميع الألغاز التي تحيط برجال الدين. رجل الدين هو نفسه يعيش عبودية النصوص في الظاهر، ويعتبرها الحقيقة المطلقة، وعلى الناس تصديقها والخضوع لها، ولا يدري أن قسماً كبيراً من النصوص من صنع أشخاص كانت عقولهم شيطانية، وتمت إضافتها عبر مراحل زمنية مختلفة. الخطورة تكمن في أن هذه العبودية تأتي على العقل أولاً، وقبل كل شيء، فتدمره وتسلب منه القدرة على التفكير، وتمنعه من التحرر، وتمنع عنه النظرة الإيجابية للحياة، لأن الحياة حسب مفهوم رجال الدين ليست الحياة الحقيقية، وإنما الأخرة هي الحياة الحقيقية، والدنيا دار ممر، فلا داعي للاهتمام بهذه الحياة.

إقرأ أيضاً: المشاكل والمعضلات في نظام التعليم العراقي الحالي

تسخيف الحياة الدنيا والتقليل من أهميتها بوابة رئيسية لدخول عالم العبودية الدينية. في عقيدة رجال الدين، الإنسان مهما فعل يبقى مذنباً أمام الله، فيسهر الليالي يستغفر عن ذنوبه، ويضرب نفسه ويهين نفسه ويضحي بنفسه ويتوسل ليلاً ونهاراً، ويفعل كل شيء ليخفف عن نفسه الذنوب، ولا يفكر بتطوير نفسه ولا يفكر بالمستقبل، ويبكي على الذنوب التي حالت دون وصوله إلى الكمال. يدخل مراحل الاعتكاف والندم لأن الذنوب تعذيب للذات. هذه المراحل تقتل الحيوية التي هي اساس الحياة (هذا السيناريو ينتشر بقوة في أوساط الطبقات الفقيرة والمحرومة، لأنها صيد سهل)، الحياة بلا حيوية موات. ولو قارناها بحياة الأنبياء سنجد أنها كانت معاكسة تماماً، فحياة الأنبياء الذين هم أساس الدين كانت مفعمة بالحيوية والنشاط والملذات والجنس والتحاور والتشاور والعمل، فكيف تحولت بعد أجيال إلى عبودية؟ السر في دور رجال الدين الذين يستفيدون من الموروث التأريخي ويضيفون إليه ديمومة الاستمرار بما يخدم تطلعاتهم. العملية برمتها هي فن التلاعب بالأفكار الموروثة، من خلال هذا الملخص نفهم أنَّ العبيد هم ضحايا، مجبرون منذ نعومة أظفارهم أن يكونوا عبيداً لغيرهم، لذلك نسميها صناعة وليست اختياراً.