اعتمدت استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ التسعينيات على مبدأ دراسة علم الاجتماع لشعوب الشرق الأوسط، والتي تتضمن أحد بنودها: ((الجينات الموروثة... الثأر والانتقام)) والتي يتصف بها ما يقدر بنصف شعوب المنطقة. تلك الدراسة التي جعلت من أقوى دولة في العالم تتفادى أي اصطدام مباشر مع أي تنظيم أو فصيل إرهابي ومتطرف. تلك الغريزة الناتجة ربما عن جهل أو الفقر أو التطرف اعتمدت عليها أيضاً بشكل أساسي الدول الممولة للتنظيمات الإرهابية والمعادية للإنسانية لتشكيل ميليشياتها وفق مصطلحات عديدة، وتجييش عناصرها واستقطابهم ودفعهم فيما بعد لتنفيذ أجنداتهم الخاصة ومطامعهم في دول الجوار.

بدأت أميركا بعد حرب الخليج الأولى بتقليص عملياتها القتالية في منطقة الشرق الأوسط، واعتمدت على جيوش حلفائها بدعمهم عسكرياً واقتصادياً، وتفادت هي الاصطدام المباشر على الأرض. كانت تجربتها مع الاتحاد السوفيتي وأفغانستان وباكستان ومن قبلها الصين وكوريا نموذجاً راسخاً لتغيير سياستها وعدم الوقوع في الفخ مرة أخرى، نجحت في ذلك بجدارة من خلال توغلها العسكري والسياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط بأريحية مطلقة، وبدأت الشعوب التي أجبرتها الأنظمة الغاصبة لترديد خطاب (الموت لأميركا) إلى التحرر قليلاً ومناداة أميركا ذاتها لحمايتهم وتخليصهم من العبودية واستبداد السلطة. لكن التطورات عام 2003 بعد حرب العراق غيرت من الموازين والخطط، فتلك الحرب أجبرت واشنطن على العودة للاصطدام المباشر على الأرض مع بقايا البعثيين، ومن ثم الوكلاء الإيرانيين، لتقوم إيران بعد ذلك باللعب على وتر الجينات وتجنيد العناصر من خلال الثأر والانتقام، وبالتالي تشكيل ميليشيات وفصائل إرهابية لتنفيذ أجنداتها متى ما شاءت وفي أي دولة أرادت.

ذات السياسة انكشفت أكثر أثناء توغل داعش في سوريا والعراق والحوثيين في اليمن. احتلت عناصر داعش شنكال وارتكبت مجازر بحق الأيزيديين وتوجهت للهجوم على قوات البيشمركة، وكانت قوات التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية عاجزة عن أي تدخل في الأيام الأولى، وغالبية عناصر التنظيم الإرهابي كانوا من أهل المنطقة في العراق والحدود السورية، حيث تم التلاعب بهم وإغرائهم والبعض تخويفهم للمحاربة ضمن صفوف داعش. أميركا تدرك ثقافة الثأر والانتقام التي يلعب عليها أعداؤها لمحاربتها عبر الوكلاء، وتتفادى الاصطدام المباشر. ذات الأمر في اليمن، لم تدخل في مواجهة مباشرة مع الحوثيين واكتفت بدعم قوات التحالف العربي من السعودية وقطر ومصر، بالرغم من أنَّ المؤشرات كانت تدل أن الطيارين غالبيتهم أميركيين.

إقرأ أيضاً: هل يستحق الكردي الموت؟

في سوريا ذات السياسة المكشوفة، احتلت داعش محافظة الرقة وجعلتها عاصمتها، وتمادت في المنطقة، وارتكبت مجازر فيما بعد بحق الكورد في كوباني والكثير من القرى الكردية والعربية. كانت واشنطن حذرة جداً من الدخول في المعركة، وقدمت دعماً للقوات الكردية والعربية ودمجتها في مجالس عسكرية وجعلت من تلك القوات في الخطوط الأمامية لأي مواجهة مع داعش أو أي فصيل متطرف آخر، واكتفت بسلاح الطيران لتخويف الإرهابيين وانسحابهم.

تتغير قواعد الاشتباك مع ازدياد نشاط البرنامج النووي الإيراني وامتداد ميليشيات إيران في دول المنطقة من جهة، والحرب القائمة في غزة من جهة أخرى، وستضطر واشنطن لتجميد سياستها المعتمدة في الحرب والعمل وفق المعطيات والأحداث المتسارعة على الأرض، لا سيما بعد تعرضها بشكل مباشر لهجمات من وكلاء إيران، وهو واضح من خلال ردها السريع على تلك الميليشيات في العراق وسوريا، بالرغم من حذرها في أن تكون الضربات لقيادات تلك الفصائل وليس للعناصر للتوافق بين استراتيجيتها في عدم خلق عداوة مع أبناء شعوب المنطقة الذين غررت بها إيران.

إقرأ أيضاً: طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟

من هذا المنطلق، الكورد يدفعون ثمن تناقضات سياسات القوى العظمى من جهة، وأجندات إيران وتركيا من جهة أخرى. مع أن الكورد وعبر التاريخ والحاضر لم يكونوا يوماً مصدر للإساءة لأي دولة في العالم، بالعكس تماماً كانوا ولا يزالون يمدون أيديهم للسلام والمحبة والتسامح مع الجميع لبناء علاقات مبنية على احترام الحقوق العادلة للشعوب في المنطقة، وهو ما يستدعي من القوى الدولية دعمهم على كافة الأصعدة للاستمرار في بناء قلعة متينة للسلام.