حينما هاجمت حماس إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ويوم كانت غالبية مجتمعاتنا، وما تزال، نخباً وعواماً ورُعاع، مُنتشية بأفيون خلطة الوَهم والجَهل والكراهية، الذي جَعَلها تُهَلوس بأن ما قام به تنظيم مرتزقة إرهابي كحماس هو مُقاومة! وبأن ما نَتج عنه مِن مَوت وخراب ديار للفلسطينيين والإسرائيليين هو نَصر! قُلنا يومها إنَّ هذا الفِعل الأهوَج لا يُمكن أن يَكون لأجل فلسطين، في ضَوء ما تسَبّب به مِن رَد فِعل وما سَيَليه مِن نتائِج. فالرَد على الأخطار التي تُهَدِّد الأقصى، وهو عُنوان هُلامي مَطّّاط، أو السَعي لإطلاق سَراح بِضعة أسرى، لا يَستحق التَضحية بأرواح وتهجير مِئات الآلاف! وتوقعنا ضِمن مَقال نُشِر في تشرين الثاني (نوفمبر) بعنوان "الماريونيتات حَمساوية والأصابع إيرانية روسية"، بأنه وفق تسلسل الأحداث، فإن الطَرَف الأول المُستفيد مِمّا حَدَث، والذي يُمكِن أن يكون وَراء التخطيط للهُجوم، هو على الأغلب نظام المُلالي في إيران!

تَدّعي حَماس أن علاقتها مَع إيران هي تحالف، والساذج وَحده سَيُصَدِّق هذا الكلام، لأن مَن يَعرِف طبيعة العَقلية السياسية الإيرانية، يَعلم بأنها لا يُمكن أن تتعامَل مَع سَماسرة كإسماعيل هَنيّة وخالد مِشعَل وحسن نصر الله وعبد الملك الحوثي وقيس الخزعلي وأبو آلاء الولائي كشُركاء، أو أن تنظُر إلى مُرتزقة مليشياتهم في فلسطين ولبنان والعراق واليمن على أنهم حُلفاء، بل كأتباع عَليهم طاعة أوامِرها وتنفيذها، وكل ما يَقوم به هؤلاء لا يُمكن أن يَكون دون إذنها وتخطيطها. وإيران بَدَأت مُنذ فترة تنفيذ مُخطّطها التوَسّعي، الذي كان ولا يَزال مُعتمِداً على هذه المليشيات، التي شَكّلتها ورَبّتها ودَرّبَتها لعقود بانتظار هذا اليَوم. لذا فحَرب لبنان عام 2006، التي بدأها حزب الله؛ والتنظيمات المُتطَرّفة كالقاعدة وداعش، التي دخلت العراق بَعد 2003، وما سَبّبته مِن دمار وموت وتهجير لشَعبه وزَرع للكراهية بَين مكوناته؛ ثم تشكيل الحَشد الذي يتبع توَجّهاتها ويُنَفّذ أجندتها؛ والحَرب السورية وما سَبّبته مِن دمار وقتل وتهجير لمَلايين السوريين؛ والحوثي وهَجَماته على السعودية، وقَرصَنته لطُرُق التجارة الدولية؛ وأخيراً وحَتماً لن يَكون آخراً، فلا يزال في جعبة إيران وأتباعها الكثير، عملية طوفان حَماس، الذي لم يَكُن طوفان أقصى فلسطيني، بل طوفان سليماني إيراني، أغرَق فلسطين أكثر مِمّا أغرَق إسرائيل. هي كلها مَراحل وحَلقات لهذا المُخطّط!

التَصريح الذي صَدَر قبل أيام عَن المُتحدث بلسان الحرس الثوري الإيراني، رمضان شريف، وجاء فيه أنَّ عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها حَماس ضِد إسرائيل كانت "ضِمن سِلسلة انتقامات سَتبقى مُستمرة لاغتيال قاسم سليماني"، أكد توقعاتنا أنَّ إيران هي مَن خَطّطَت الهجوم وَمَوّلته، وأنها المُستفيد الأول مِن نتائِجه، وأن حَماس لم تكن سِوى ماريونيتة وأداة لتنفيذه. وهو أمر ليسَ بمُستَبعَد عَن حَماس التي أقامت لسليماني سرادق عزاء بغَزّة، ووصفه هنية بـ"شهيد القدس"، والذي صَرّح مرة قائلاً: "الهَدَف مِن عَمَلياتنا هو إشغال إسرائيل والولايات المُتحدة عَن محاربة إيران". طبعاً تصريح الحرس الثوري كان مُحرِجاً لحَماس، لذا سارَعَت لنَفي ما ورد على لسان شريف ببَيان جاء فيه: "أكّدنا مِراراً دَوافع طَوفان الأقصى، في مُقدِّمتها الأخطار التي تُهَدِّد المَسجد الأقصى"! لكن هذا لا يَعني تكذيب الخَبَر، لأن سَيف لِسان شريف سَبق عَذل حَماس!

فبعد العملية الذي نفذتها الولايات المتحدة لاغتيال سليماني في 2 كانون الثاني (يناير) 2020، توَعّدت إيران بالإنتقام، وهدد علي خامنئي قائلاً: "خسارة الجنرال الحبيب مَريرة، لكن طريقه لن ينتهي باستشهاده"، كما قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي:"إن القَتلة على يقين مِن الإنتقام لدِماء الشهيد سليماني"، فقد كان يحظى بمكانة خاصة لدى قادة وأتباع نظام الملالي، لأنه كان يجمع مهارات سياسية وعسكرية واستخبارية، وهو صاحب فضل توسيع النفوذ الإيراني في المنطقة. كان المُخَطِّط الأبرز لسياسة إيران الإقليمية، وهو الذي طَوّر استراتيجية اعتمادها على المليشيات في العراق ولبنان واليمن، ويعتبر العقل المُدَبّر لما يُسمى "محور المقاومة"، وكان يحظى بدَعم خامنئي الكامل مع إمكانية الوصول إليه بجميع الأوقات. لقد كان بلا شك الشخصية الأبرز في الأجهزة الأمنية الإيرانية، وأحد أقوى رجال الشرق الأوسط. ففي حرب لبنان عام 2006، ساهَم في إنقاذ حزب الله بعد أن اقتربت إسرائيل من تدميره. وعِبر تدخله المبكر في سوريا عام 2012 أنقذ بشار الأسد من السقوط، ويُقال إنه مَن أقنع الروس بالتدخل في سوريا. في العراق أيام الهجوم على داعش، لم يكن أمام رئيس الوزراء حينها حيدر العبادي حلاً غير التوجه للجبهة بهلكوبتر ليُطلِق عمليات أمر بها سليماني سَلفاً، وحتى الولايات المتحدة وَفّرت له دَعماً جَوياً على مَضَض، كما كان مسؤولاً عَن حَملة القَمع الوحشية التي شَنّتها الأجهزة الأمنية والحَشد ضد حراك تشرين، وترأس اجتماعاً طارئاً للحكومة بحضور رئيس الوزراء عادل عبد المهدي! توازياً مع تحَرّكاته، صَوّره نظام الملالي كبَطل شَعبي، لأنه يعلم أن قلوب المُجتمعات العربية والإسلامية الساذَجة، التي نشَأت على فكرة المُنقِذ، تهفو لِهكذا نموذج وتتعاطف معه. لذا نشَرَت له صوراً وفديوات تُظهِره مُتواضعاً مع ابتسامة خفيفة ولحية مُشَذّبة وشَعر أبيض، يُجالس الجنود ويُشاركهم طعامهم، ما جعله ليس فقط موضع تعاطف، بل وإعجاب الكثير من العرب والمسلمين، أو الأجانب المُصابين بعُقدة العَداء لأمريكا!

لقد كانت خسارة نظام الملالي كبيرة بموت سليماني، ومِن الصعب تعويضه بإسماعيل قآني وغيره، فهو لم يكن فرداً، بل كاريزما وخبرة وشَبَكة علاقات، مِن الصَعب أن تجتمع مرة أخرى بشخص واحد. لذا بالتأكيد خامنئي ورئيسي لم يقصدا بالإنتقام له تلك البهلوانيات المُتمَثلة بإطلاق مطايا ملشياتهم في العراق لصواريخ ومُسيّرات صَدِأة على القواعد الأميركية بين حين وآخر، بل عملية كبيرة وحدث جَلل كهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، يقلب موازين المنطقة، ويُحدِث تدميراً طويل الأمد، وبُحور دِماء. لذا لم يكن من قبيل الصَدفة تنفيذ حماس لطوفان سليماني قبل فترة وجيزة من ذكرى مقتله. حتى خيوط التفجيرات التي حدثت في مدينة كرمان قرب ضريحه في الذكرى الرابعة لمقتله، ليست بَعيدة عن أصابع نظام الملالي. فلو كانت مِن تدبير مُخابرات مُعادية لهم، لكان الهَدَف نوعياً كالغارة التي استهدَفَت سليماني في العراق وصالح العاروري في لبنان، وليس عشوائياً منه سقوط أكبر عدد من الضحايا المدنين كعادة عمليات إيران ومليشياتها الإرهابية. بالتالي، اختيار المكان والزمان يبدو أنَّ الهدف منه ترسيخ محور إيران ومليشياتها لصورة أنهم مستهدفون ليلقوا اللوم على جهة بعينها، قد تكون الولايات المتحدة أو إسرائيل، حسبما أعلن رئيسي حتى قبل انتهاء التحقيق! كما أنَّ تصريحات ملالي قم وقيادات حماس وحزب الله بأن تفجيرات كرمان ستزيد من التفاف الشعوب الإسلامية حول محور المقاومة، دليل على ذلك.