ربما يكون أجمل ما قيل في حلف شمال الأطلسي قد جرى على لسان المشاغب دونالد ترامب. ففي لحظة تجلٍّ، رمى حلفاء الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة، مرورًا بحرب باردة طويلة، بين فكي الدبّ الروسي من دون أن يرف له جفنٌ، قائلًا: "فليفعل بهم بوتين ما يشاء"، والحجّة أن هؤلاء الحلفاء لا يبذلون من المال ما يكفي على دفاعاتهم الخاصة، متكّلين على القوة الأميركية لحمايتهم.
لا مفرّ من تذكر أمر مهم: أساءت الولايات المتحدة استخدام حلف شمال الأطلسي مرارًا؛ ابتداءً بطلب واشنطن من دول الحلف مساندتها في الانتقام من أفغانستان أولًا ومن العراق ثانيًا بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وليس انتهاءً بدعوة واشنطن نفسها دول الحلف إلى معاونتها في "حراسة الرخاء" في باب المندب، مرورًا بقصف ليبيا في بدايات الربيع العربي. هذه الأمور مختلفة نوعًا ما، لكن الجامع بينها هو الإخفاق الأميركي.
فلا غزو أفغانستان والعراق أمس، ولا انشر الفوضى الخلاقة في العقد الثاني من القرن الحالي، ولا التحالف لقهر داعش، ولا ضرب اليمن وسوريا والعراق اليوم، مسائل نابعة من حرص الإدارات الأميركية على صون أمن العالم، إنما الأمر كله نتيجة هيمنة الموجة الجديدة من صقور الإمبريالية الأميركية على القرار في الولايات المتحدة، ويصب في مكان واحد: المصلحة الأميركية.
لا تنفك واشنطن تجر حلفاءها الأوروبيين إلى مآزقها العسكرية، والأمر مرشّح للتوسّع إن انقلبت حرب غزة إلى صراع إقليمي واسع النطاق.
بعدما تذكرنا مثالب واشنطن أعلاه، لا بدّ من التفكير قليلًا في ما يقول ترامب. فإن غضضنا الطرف قليلًا عن ميله شبه الفطري بتقديمه مصلحة الولايات المتحدة على أي مصلحة أخرى، وإن سلّمنا جدلًا بأن الأميركيين وثقوا برجاحة عقله وصواب قراراته، فإن قراءة جيوبوليتيكية سريعة لهذا العالم تقنعنا بأن انتهاء الحرب الباردة أقفل الباب جيدًا على صراع الأيديولوجيات، خصوصًا في أوروبا، وصار المطلوب اليوم أن ترتب كل دولة أوروبية بيتها الداخلي من دون أن تتلهى بمشكلات جيرانها، وأن تحصّن نفسها جيدًا من أي تدخل خارجي قبل أن تلجأ إلى اتفاقيات دفاع مشترك مع دول أخرى، في أوروبا وفي خارجها.
إقرأ أيضاً: هكذا بدّد بوتين أحلام الغرب... واستفاد من وجود "فاغنر" في بيلاروسيا
حصل البريكست ونجت بريطانيا من الطوق الأوروبي. اليوم، ثمة همس عن "ديكست": خروج ألماني من الاتحاد الأوروبي. إن صح هذا الأمر، فكل الذي فوق التراب تراب، ووداعًا لأوروبا موحدة. وإن جرت الرياح في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل كما تشتهي سفن ترامب، وعاد سيّد البيت الأبيض، فإن عودته ستنعش آمال حركات اليمين الشعبوي في دول أوروبا، فتفرض نفسها ورؤيتها لدول على شاكلة "دولة دونالد ترامب". وهذا يعجّل في تبلور المشاعر الانفصالية في أوروبا، أي في دول أساس في حلف شمال الأطلسي. حينها، لا قيمة للمادة الخامسة في دستور الحلف - تنصّ على دفاع مشترك بين الدول الأعضاء كلها - ولا معنى، إن كانت أوروبا فقدت ميزة رافقتها طويلًا، تتمثل في "الشعور السامي بالوحدة".
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
إن كان ترامب صريحًا أكثر مما يلزم، فعلى حلف شمال الأطلسي أن يحسن تلقي هذه المغالاة. فهو لن يتردد فعليًا في رمي الحلف كله في سلة المهملات السياسية، تمامًا كما رمى العالم المتردد كله حين قرر بجرّة قلم أن ينقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وتمامًا كما رمى بقية العالم خارج مطارات أميركا وخلف الجدار على الحدود مع المكسيك.
لنتذكر أن ترامب تعهد حلّ الأزمة الأوكرانية في 24 ساعة... فهل سيرمي الأوكرانيين وقودًا في مواقد الكرملين، وكان الله يحب المحسنين؟
التعليقات