يتذكر المطلعون على السياسة الأميركية الاستنتاج الذي توصلت إليه صحيفة "واشنطن بوست" بأن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد أدلى خلال ولايته الرئاسية الممتدة أربع سنوات بـ 30 ألفاً و573 تصريحاً كاذباً أو مضللاً. الصحيفة قامت بعمل يستحق الثناء. غير أن تصريحاً أدلى به ترامب في 23 كانون الثاني/يناير 2016، أي قبل توليه الرئاسة بسنة كاملة، ظل جزءاً منه، حتى يومنا هذا، حقيقة راسخة. قال ترامب آنذاك إن أتباعه "أذكياء"، مضيفاً أن "استطلاعات الرأي تقول إنني أستميل الناخبين الأكثر ولاءً"، ومضى يقول: "يمكنني الوقوف في منتصف الشارع الخامس وإطلاق الرصاص على شخص ما، ولن أخسر أي ناخب".

وكما هو معروف، فإنَّ ترامب يواجه منذ فترة غير قصيرة دعوات وملاحقات جنائية موازية في أتلانتا وواشنطن وميامي ونيويورك، وفيها يُنسب إلى الرئيس السابق تهم مختلفة تشمل ما مجموعه 90 جريمة، إبتداءً بالتلاعب بالانتخابات والاحتيال المشترك ضد الولايات المتحدة وسرقة الملفات، وصولاً إلى إخفاء ما يطلق عليه تسمية أموال الصمت أو الارتشاء، وهي جرائم يُعاقب علیها بالسجن لفترات طويلة علی الأرجح. إنَّ نظرة إلى هذه التهم تثبت أمراً واحداً على الأقل: لم يكن ترامب مهتماً أبداً بالقواعد والأعراف "النبيلة" و"المعتادة" في بلاده. لذا يمكن افتراض شيئين: أن هذه المواضيع والفضائح ستهددان صورته كملياردير "عصامي ونظيف"، وهو ما رسخ مكانته الاجتماعية فعلاً واستنهض صعوده السياسي وما زال يحمس مؤيديه حتى اليوم، وبالتالي احتمالية سقوطه في مستنقع الإجراءات الجنائية ضده. لكن بخلاف كل ذلك، نرى أنَّ جميع استطلاعات الرأي تشير حالياً إلى أن ترامب سيبقى المرشح الجمهوري للرئاسة؛ وإذا حدث ذلك فعلاً، فسيحظى ربما بفرصة أفضل للتغلب على جو بايدن في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، الأكبر منه سناً بثلاث سنوات.

ما لا شكَّ فيه أنه بعد فوز ممكن لترامب، الذي أصبح عضواً في الحزب الجمهوري عام 2009، ستتغير أميركا بشكل لم تشهده قبل. وسيبذل كل ما في وسعه لإيقاف التهم الموجه إليه وإسقاطها بأساليب قد لا تخطر ببال الكثيرين. فترامب على وعي تام بمدى تأثيره على ناخبي اليمين والوسط والمحافظين، وقدرته على تعبئة تلك الطاقات. ولقد تمكن خلال السنتين الماضيتين من جمع حوالى نصف مليار دولار من التبرعات للحملات الانتخابية للجمهوريين، في محصلة غير مسبوقة في تاريخ المحافظين.

ثمة أمر آخر لا يمكن الاستهانة به، وهو طبيعة الطاعة العمياء التي يظهرها المتطرفون لرئيسهم أو مرجعهم، وهو أمر يبدو جلياً في حالة مؤيدي ترامب. فهؤلاء ليسوا بحاجة إلى القيام بتقصي الحقائق أبداً، وما يأتي من الرئيس أو المرجع تكليف "مطلق"، وبالتالي عليهم وعلى الآخرين أيضاً الخضوع له. أخطر من ذلك، فبعض تصرفاتهم لا تنم عن كونهم فئة سياسية واجتماعية يجب عليها احترام القانون الذي يخضع له الجميع. كلا! إنهم أصحاب الحقيقة المطلقة والوحيدة. لذا، فقد حدث ما حدث في اعتداء السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 على الكونغرس قبل ثلاث سنوات، وبتحريض مباشر من ترامب. وأغرب من ذلك، بحسب دراسة أجريت في خريف 2022، فإنَّ 8 بالمئة من المواطنين الأميركيين (حوالى 21 مليوناً) يرون أنَّ بايدن رئيس غير شرعي بسبب کذبة فوز ترامب في الانتخابات، ويعتبرون استخدام العنف مبرراً من أجل تنصيب ترامب مجدداً كرئيس للبلاد.

إنَّ فشل ترامب في محاولته قلب نتائج الانتخابات لم یأت من كونه تراجع عن هدفه طوعاً، بل لأنه اضطر فعلاً إلى التراجع عن محاولته بعد أن أثبت، مكتئباً، أن الأكثرية الساحقة، حتى داخل حزبه في تلك الساعات الحساسة من تاريخ أمريكا ونسبة كبيرة من المقربين إليه الأوفياء، يقابلون ادعاءاته الكاذبة عن سرقة فوز الانتخابات بـ "صمت صارخ"، ولا يشاركونه الرأي في العمل على تفريغ مبادئ الديمقراطية من محتواها الحقيقي. فالمحاكم، ومسؤولو الانتخابات، وحتى ويليام بار، وزير العدل المخلص لترامب، لم یدعم أي طرف منهم نظرية الاحتيال وسرقة نتيجة الانتخابات، وهي نظرية لم يقدم ترامب أي دليل ثابت ومقنع على صحتها، بالرغم من أنه ظل متمسكاً بها.

السبب الأساسي في رفض قبول كذبة ترامب هو كما يبدو "تجذر" الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية. إنَّ شيئاً من هذا القبيل من الصعب رؤيته في المجتمعات "الحديثة" العهد بالديمقراطية مثل تركيا الأردوغانية أو روسيا البوتينية. فهذين استطاعا تغيير الكثير لمصالحهما الشخصية، من دون أن يواجها قوة حاسمة تردعهما عن ذلك.

وكما يٌقال، تستطيع الديمقراطية المتجذرة الوقوف في وجه أزمات عاصفة وشديدة، ولا تخشى العواصف الخارجية، لكنها تركع أمامها، ما عدا تلك القادمة من رحمها وواقعها الداخلي، أي إذا كان هناك من الداخل من يحاول النيل منها.

أيضاً يفكر ترامب، نقلاً عن مصادر مقربة منه، في نشر الجيش محلياً لقمع أي احتجاجات لا تعجبه أو تحريض وزارة العدل في البلاد ضد منافسيە السياسيين وحلفائه السابقين. وبالرغم من أن القاعدة في العاصمة الأميركية واشنطن، ومنذ فضيحة ووترغيت في السبعينيات من القرن الماضي، تنص على أن هذه الوزارة يجب أن تعمل بشكل مستقل إلى حد كبير عن البيت الأبيض.

وفي هذا الصدد قالت هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي الخاسرة أمام ترامب، إن أشخاصاً كانوا يعيقون عمل الرئيس السابق خلال فترة ولايته. وإذا ما استطاع ترامب الفوز بالانتخابات المقبلة، فستضم إدارته "أشخاصاً ليس لديهم مبادئ، ولا ضمير. سيفعلون كل ما يقوله".

"علينا أن نتوقف عن التمني ونعترف بالحقيقة القاسية: هناك طريق واضح نحو الدكتاتورية في الولايات المتحدة. إنَّ هذا المسار يقصر كل يوم"، هذا ما كتبه المؤلف والمستشار السياسي الجمهوري السابق روبرت كاغان في مقال مثير نُشر بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في "واشنطن بوست"، الصحيفة التي تبنت شعار "تموت الديمقراطية في الظلام" على موقعها في 22 شباط/فبراير 2017، وأضيف إلى النسخ المطبوعة بعد أسبوع واحد.

مما لا شكَّ فيه أنَّ لدى ترامب عناصر کافیة من الموالين في داخل الحزب الجمهوري بإمكانهم ممارسة ضغوط قوية لتخلية النظام الديمقراطي الليبرالي من محتوى أكثرية، إن لم نقل، كل قيمها وأعرافها. وليسوا بقليلين الجمهوريون الذين تمكنوا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من سن قوانين تغير الانتخابات الأميركية على نحو يضمن لهم النجاح في الجولات المقبلة.

في حالة فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة، هل يستطيع ترامب حقاً في نهاية المطاف تغيير النظام وتحويل البلاد إلى دولة استبدادية وأوتوقراطية، فيها الديمقراطية واجهة لا أكثر؟