لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وإسرائيل تغيير وجه الشرق الأوسط، وإعادة تشكيل خريطته الجيوسياسية، وتشذيب بنيته الثقافية دون وجود بيئة داخلية مهيأة لهذا التحول. فهشاشة الأنظمة، وفسادها، واستبدادها، إلى جانب الدجل الديني الذي تروج له، والثقافة المدمرة التي زرعتها بين شعوبها، جعلت المنطقة برمتها ساحة مفتوحة للتحولات الجذرية والتدخلات الخارجية، وبهذا، باتت القوى الكبرى قادرة على إعادة رسم مصير هذه الدول وفق مصالحها، وهو ما تتقبله، بل وتسعى إليه، شريحة واسعة من شعوب المنطقة التي ترى في التغيير الخارجي فرصة للخلاص من استبداد الداخل.

ففي ظل أنظمة تقايض بقاءها بهضم حقوق شعوب بأكملها، كالشعب الكوردي وغيره من المكونات المضطهدة، وتحكم قبضتها على السلطة عبر نشر الإرهاب الإسلامي وتغذيته، لم تعد القوى الخارجية، بحاجة إلى شنّ حروب طويلة أو فرض سياسات معقدة، يكفيها أن تحرّك خيوط اللعبة، فتنهار الدول من الداخل، واحدة تلو الأخرى، بينما تواصل الأنظمة المتواطئة نهجها في دعم التطرف الديني، وتحويله إلى أداة لقمع شعوبها، والتغطية على فسادها تحت رايات مزيفة باسم الدين والسيادة.

وسط هذا المشهد، بات المواطن المسلوب الإرادة يتأرجح بين حاكم مستبد يحكمه بالحديد والنار، ورجل دين متطرف يُلبسه أغلال العبودية الفكرية، وكلاهما يسوقانه إلى الهاوية. أما الشعوب المقهورة، كالكورد وغيرهم، فليس أمامهم سوى المقاومة في وجه طوفان القهر، والحقد، والعنصرية الممنهجة، التي تُغذّى تحت ذرائع زائفة، بينما يُعاد رسم مستقبل المنطقة في دهاليز العواصم الكبرى، بعيدًا عن إرادة شعوبها.

إقرأ أيضاً: تيه بين العدم والخلود

الأنظمة التي تزعم معارضة مشاريع كبرى مثل خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير سكان غزة، لا تمتلك أي أدوات حقيقية لمواجهتها سوى التجييش الإعلامي والشعارات الرنانة التي لا تغير من واقع الأمور شيئًا، فكيف يمكن لأنظمة، قامت بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الاستبداد وإقصاء الشعوب، أن تقف أمام مخططات دولية وهي غير قادرة أصلًا على تأمين استقرارها الداخلي؟

ولا يُستبعد أن يكون ما طرحه ترامب حول تهجير سكان غزة مجرد خطوة أولى في خطة أوسع بكثير من المعلن، وقد تتغير ملامحها مع الوقت، بعدما يكون قد فتح الباب أمام استراتيجية شاملة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. هذه الخطة، إن وُضعت موضع التنفيذ، لن تقتصر على الجوانب الجيوسياسية فقط، بل ستمتد إلى مجالات الاقتصاد والثقافة، مع التركيز على تجفيف منابع الإرهاب والتطرف والتكفير، وإعادة توجيه مسارات الإسلام السياسي.

وبناءً على ذلك، فإن تداعيات ما حدث في غزة، وجنوب لبنان، وسوريا قد تكون مجرد بداية لتحولات استراتيجية أعمق، تتجاوز ما شهده الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين، حين أعادت القوى الدولية رسم خريطة المنطقة عبر اتفاقية سايكس - بيكو وانهيار الإمبراطورية العثمانية.

إقرأ أيضاً: ازدواجية الخطاب العربي وحقوق الكورد

فالمخطط المحتمل قد لا يقتصر على تغيير الحدود أو إسقاط أنظمة، بل قد يمتد ليشمل تفكيك البُنى الأيديولوجية التي حكمت المنطقة لعقود، مما يفتح المجال أمام نظام جديد يختلف جوهريًا عن المعادلات السابقة.

فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسم أراضيها عبر اتفاقية سايكس - بيكو، إلى التدخل الأميركي في العراق وسوريا، لم يكن العامل الخارجي وحده كافيًا، بل كان هناك دائمًا تفكك داخلي، وصراعات قومية وطائفية، واستبداد جعل من التدخل الأجنبي مخرجًا مرحبًا به أحيانًا من قبل شرائح واسعة من السكان، وبالتالي فما الذي يمنع تكرار السيناريو ذاته اليوم؟ خاصة والمنطقة تعيش نفس الظروف، وبأسوأ أشكالها، حيث تتحكم أنظمة دكتاتورية في مصائر شعوبها، مع ظهور أنظمة إسلامية متطرفة إرهابية، تغذي التناقضات العرقية والطائفية، تجعل من الاستقرار حلقة مفرغة لا يمكن الوصول إليها. في ظل هذه المعادلة، تصبح المشاريع الخارجية مجرد انعكاس لحالة الانهيار الداخلي، وليس مجرد مخطط خارجي يُفرض قسرًا.

عندما طرح ترامب خطته لتهجير الفلسطينيين من غزة، لم يكن يبتكر شيئًا جديدًا بقدر ما كان يستغل واقعًا مهترئًا يسمح بمثل هذه الطروحات، بل وبناها على دراية تامة بالبيئة السياسية التي تهيمن عليها أنظمة مهترئة جعلت مثل هذه الأفكار تبدو وكأنها قابلة للتنفيذ، تمامًا كما كانت فكرة تقسيم العراق أو تقسيم سوريا مطروحة يومًا ما، ليس لقوة الطرح الخارجي، بل لأن الظروف الداخلية تجعلها ممكنة.

هذه المنطقة، التي تحولت إلى ساحة صراعات قومية ودينية ممتدة لعقود، لم تعد بحاجة إلى الإمبراطورية الأمريكية وأوروبا لتمزيقها، فقد قامت أنظمتها بهذه المهمة بامتياز، من خلال قمع القوميات غير العربية، كالكورد والأمازيغ، واضطهاد الأقليات الدينية كالإيزيديين والمسيحيين والآشوريين، وانتهاج سياسات التمييز الطائفي ضد الأقليات مثل العلويين والدروز وغيرهم. ما يحدث اليوم هو نتيجة طبيعية لسياسات هذه الأنظمة التي لم تعمل يومًا على بناء مجتمعات مستقرة، بل كانت تحكم عبر تأجيج الصراعات الداخلية، حتى باتت هذه الصراعات تهدد وجودها هي نفسها.

إقرأ أيضاً: تركيا بين تعزيز النفوذ ومواجهة التحديات في الساحة السورية

لا يمكن النظر إلى التحشيد العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية خارج هذا السياق، فكلما ازداد الخطاب العدائي ضد إسرائيل، ازداد بالمقابل دعم الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل، وتحول الصراع من فلسطيني - إسرائيلي إلى صراع بين الغرب من جهة والدول العربية والإسلامية من جهة أخرى. فبدل أن يكون هناك صراع سياسي يتمحور حول إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، بات المشهد ساحة حرب باردة بين قوى عالمية، حيث تدافع الولايات المتحدة وأوروبا عن إسرائيل، بينما تتخذ بعض الدول العربية والإسلامية الصراع ذريعةً لتعزيز نفوذها، مثلما تفعل إيران عبر وكلائها في المنطقة، أو كما تفعل تركيا التي تستغل الخطاب الإسلامي والقضية الفلسطينية لأهداف توسعية خاصة بها.

هذه المعادلة لم تخدم الشعب الفلسطيني بقدر ما جعلته أداة في لعبة كبرى، حيث باتت قضيته تُستخدم كوسيلة لتبرير صراعات دولية لا علاقة له بها. فمنذ ظهور دولة إسرائيل عام 1948، والهجرة الفلسطينية الكارثية، لم تقدم الأنظمة العربية حلًا حقيقيًا للقضية الفلسطينية، بل استثمرت فيها لخدمة بقائها، وهو ما يجعل فكرة التهجير التي يطرحها ترامب تبدو وكأنها امتداد لسياسات التضليل العربية قبل أن تكون مشروعًا غربيًا.

في هذا السياق، تدرك تركيا وإيران أن التغيير في المنطقة لن يتوقف عند حدود فلسطين أو غزة، بل سيصل إلى داخل أنظمتهما السياسية والعرقية، لذلك تحاولان المقاومة عبر إثارة الضجيج الإعلامي وتخويف الداخل من سيناريوهات التفكك.

تركيا، التي تواجه أزمة هوية حادة مع الكورد، لا تقتصر مخاوفها على استقلال إقليم كوردستان العراق أو الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، بل تخشى امتداد عدوى المطالب القومية إلى داخل حدودها، حيث يشكل الكورد أكثر من 30 بالمئة من سكانها. تدرك أن أي خطوة نحو منح الحقوق القومية للشعوب الأخرى في الشرق الأوسط قد تشكل شرارة لانفجار داخلي يهدد بنيتها السياسية القائمة على الإنكار والقمع، مما يجعلها تتبنى سياسات عدوانية لا تهدف فقط إلى قمع كوردها، بل إلى تقويض أي تجربة كردية ناجحة في المنطقة.

أمَّا إيران، فترى في تصاعد النزعات القومية في الأحواز وبلوشستان وكوردستان تهديدًا مباشرًا لكيانها السياسي القائم على فكرة "ولاية الفقيه"، والذي لا يحتمل أي شكل من أشكال التعددية. لذلك، فإن الصراع في الشرق الأوسط ليس فقط بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا بين الغرب والعالم الإسلامي، بل هو في جوهره صراع بين أنظمة تخشى التغيير لأنها تعلم أن أي تغيير حقيقي سيعني نهايتها الحتمية.

التاريخ يثبت أن الشرق الأوسط لا يمكن أن يظل في حالته الحالية إلى الأبد، فكما انهارت الدولة العثمانية بسبب تنوعها العرقي والديني وفشلها في تحقيق توازن داخلي، تواجه دول المنطقة اليوم المصير ذاته، لأنها لم تستطع بناء دول وطنية تستوعب مكوناتها المختلفة. وبالتالي، فإن الحديث عن إعادة تشكيل المنطقة ليس مجرد مخطط غربي، بل نتيجة حتمية لانهيار داخلي صنعته هذه الأنظمة بنفسها. ومثلما كانت سايكس - بيكو نتيجة لسقوط الإمبراطورية العثمانية، فإن أي إعادة ترسيم جديدة ستكون نتيجة مباشرة لسقوط هذه الأنظمة التي عجزت عن بناء دول حقيقية.

إقرأ أيضاً: الإدارة الذاتية وفصل المسارين السياسي والعسكري

ما يجري اليوم ليس مؤامرة بقدر ما هو إعادة إنتاج لفشل الأنظمة، والدول الكبرى لا تحتاج إلى خلق الفوضى، لأن الفوضى قائمة أصلًا، وكل ما تفعله هو توجيه الأحداث نحو مصالحها. فلو لم تكن هناك أنظمة قمعية، وفساد متجذر، وانقسامات قومية وطائفية، لما تمكنت أي قوة خارجية من استغلال المنطقة بهذا الشكل.

لذلك، فإن الشرق الأوسط يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، بين أن يواصل انحداره نحو الفوضى، وبين أن يبدأ رحلة إصلاح حقيقية تعيد بناء مجتمعاته على أسس العدالة والنظم الفيدرالية اللا مركزية. ولكن طالما بقيت هذه الأنظمة تتعامل مع حقوق القوميات كالكورد والأمازيغ وغيرهم بالحديد والنار، وطالما استمرت في تغذية الكراهية والصراعات الداخلية، فإن المنطقة ستظل ساحة مفتوحة لتدخلات القوى الخارجية، ولن يكون هناك حدّ لمسيرة التغيير، التي قد لا تتوقف عند غزة والضفة، بل قد تمتد لتشمل أنظمة لم تتوقع يومًا أنها ستكون جزءًا من خريطة جديدة للشرق الأوسط كتركيا وإيران.