خلل آخر يتم التغاضي عنه، من طرف أغلب المنظّرين للشأن التربوي، ألا وهو الإلزامية ومقولة التفوق المرتبطة بالشهادات المدرسية والجامعية، والتي صُبغت بالرسمية لحد التقديس وهالة اللامعقول!

إذ، كيف يُعقل أن نحكم على مسار طويل من الحياة بورقة اسمها الشهادات المعترف بها! وماذا نقول عن الفلاسفة وأهل النبوغ والرؤساء والعلماء ورجال المال والأعمال، الذين أبدعوا، ووصلوا بدون شهادات ورقية، شهادات للأسف تمّت صباغتها بطابع الإلزامية والإجبارية لولوج المناصب، ولا شيء غير ذلك.

هل الإبداع والقدرة على حل المشاكل، والخروج بأفكار جديدة مبتكرة وقادرة على خرق الصعاب، من خلال الاستنباط والاستقراء، وإيجاد الحلول، يرتبط بالشهادات الورقية التي أصبحت تجتر المعارف الجاهزة تقريباً وفقط، بل وتتمادى في تقديس المصادر والمراجع، وأصحابها، لدرجة محاصرة هامش إبداعات الباحثين، بعيداً عن بلورة أفكار جديدة بعيدة عن رتابة قال فلان وقال فلان بن فلان!

الأحداث التاريخية لا جدال فيها وتؤرّخ لذلك، إذ إن أهل الإبداع قد يتخطون الحواجز، بيد أنه في المقابل تقف للأسف الشديد أمامهم حواجز من الإسمنت المسلّح، فيما أصبح مقدساً في نظامنا التعليمي الجامد، والمتمثل في طبيعة ونوعية الشهادات التي أصبحت الهدف عوض الوسيلة، كطريق طويل أو مختصر للوصول إلى المناصب، والحصول على التعويضات، وسهولة تسلّق الكراسي في أحزاب السياسات ومواقع الإدارات.

المنظومة التعليمية الوطنية في مجملها تعتمد على العلامات، أي النقط المحصّل عليها من خلال امتحانات مرعبة أكثر منها تقويمية. لكن ماذا بعد ذلك! فهناك شبه تطبيع والمزيد من الإبداع في الغش في كل شيء، لدرجة أصبح الغش يؤثر حتى على تطور الحياة المجتمعية ككل، فها هو التفاوت وعدم الشمولية في المواضيع، واختلاف طرق الحراسة، والزجر بين الجهات والأقاليم والمدن والبوادي وهكذا دواليك، لينتقل الغش لمستويات تدبيرية أخرى والواقع ينطق قبل الجميع!

لا يُعقل بتاتاً، أن يتم إقصاء تلميذ أو طالب بمجرد عدم قدرته على استيعاب مادة أو لغة أو قدرة أو مهارة ما. فالإقصاء يعني الطرد من حدود وهمية اخترعها بشر، ينتمون إلى مجتمع سريع التطور والتغير.

ولعل خلق منظومة تعليمية موازية تعتمد على الحرية في الاختيار مع إعطاء هذا الاختيار الحرية في الإبداع في مواضيع ما أو أبحاث ما، ومناقشتها علمياً أمام لجان علمية مشتركة مشهود بكفاءتها العلمية والحيادية، كفيل بصقل المواهب، وظهور أفكار جديدة قد تضع حدّاً للأزمات الاجتماعية المركبة، كالصحة، والبطالة، والشغل، والضرائب. فإبداع الحلول الآنية الهيكلية والبنيوية، للمعضلات التي عجزت الشهادات الورقية عن وضع حدّ لألمها المتعدّد الأبعاد والاتجاهات، التربوية، الاجتماعية، الاقتصادية، البيئية، وحتى اللغوية، أمسى واضحاً وضوح أشعة الشمس في فصل شديد الحرارة!

إذ إن القطع مع ما يسمى "كم من حاجة قضيناها بتركها"، أضحى ضرورة ملحة في عالم سريع التحول، عالم لا يؤمن بالتقليد، فإسقاط النماذج التنموية على بلدان تختلف عنا في كل شيء، ولا وجود لأوجه التشابه بينها وبيننا تاريخياً، جغرافياً، ثقافياً، قيمياً، سياسياً، اقتصادياً، و... من الأمور لا تستقيم.

كما أنَّ التمادي في الاعتماد على عقم بعض الأحزاب والجمعيات النقابية والمهنية، التي لم ولن تنتج إلا ثقافة الاحتجاج والتذمّر، من الأمور التي لا تستقيم مع سيرورة التطور المجتمعي.

الحياة في نهاية المطاف مليئة بالإبداع، ولا يمكن لأقطار بها ملايين البشر أن لا تُنجب إلا العقم!

كما أن الاقتصار على الجانب المعرفي النقلي، يعد تعثّراً وإقصاءً للفكر الإبداعي بصفة عامة. لذا، أعتقد، وجازماً، أن خلق منظومة موازية لها هامش من الحرية سيفيد ويستفيد منها الجميع، منظومة قد تُظهر أفكاراً جديدة قد تتبلور في إطار نماذج تنموية قادرة على حل مشاكل البلاد وتحسين وضعية العباد.