يقف المسرح العراقي اليوم عند مفترق تأمل، حيث تتقاطع التقاليد الفنية العريقة مع موجات التغيير الاجتماعي والسياسي. وعلى امتداد قرن من الزمن، كان المسرح العراقي شاهدًا ومشاركًا في الحراك الثقافي، متأثرًا بالتحولات الكبرى التي طالت البلاد، ومشكلًا بدوره وعيًا جمعيًّا لطالما واجه القمع بالحكاية، والخراب بالجمال.

في بدايات القرن العشرين، ظهر المسرح كامتداد طبيعي للنهضة الثقافية التي اجتاحت العراق. أعمال مثل "الذخيرة" و"فتح الأندلس" كانت محاولات أولى لخلق عرض مسرحي يرتبط بالهوية الوطنية والدينية. ومع دخول الأربعينيات والخمسينيات، بدأت موجة من الكتّاب والمخرجين – أمثال حقي الشبلي وجعفر السعدي – بوضع اللبنات الأولى لمسرح يحاكي الواقع ويستعير من المدارس العالمية أدواته التعبيرية.

ومع تعاقب الأنظمة، تداخل المسرح مع السياسة، فكان في أحيان أداة تمجيد، وفي أحيان أخرى صوتًا خافتًا للمعارضة. في حقبة السبعينيات، وبالرغم من ازدهار الإنتاج الفني، وجد المسرحيون أنفسهم أمام معادلة معقدة: كيف يُبدعون في ظل رقابة صارمة؟ مسرحيات مثل "الخيط" و"البيك والسايق" حاولت الموازنة بين النقد الفني والنجاة من المحاسبة، بينما آثر آخرون الانسحاب أو التهكم الصامت.

الحرب والحصار في الثمانينيات والتسعينيات أنهكت جسد المسرح، لكنه لم يمت. في القاعات الصغيرة، وتحت أعمدة الكهرباء المتقطعة، استمرت العروض بجهد أفراد ومبادرات مستقلة. تلك كانت حقبة التجريب والارتجال، حيث تحوّلت الخشبة إلى منبر مقاومة رمزية، وتماهي الجمهور مع المسرح بوصفه مساحة للبوح والتنفيس.

بعد 2003، دخل المسرح مرحلة جديدة، اتسمت بالانفتاح والاضطراب في آن. ظهرت نصوص جريئة وأخرى تجريبية، وأعاد بعض المسرحيين المغتربين صلتهم بالجمهور المحلي. لكن الانفلات الأمني وضعف الدعم الرسمي جعلا من الاستمرارية تحديًا حقيقيًا. بالرغم من ذلك، شهدت بعض المهرجانات المحلية والعربية بروز عروض لافتة تعيد طرح أسئلة الوطن والهوية والانتماء.

اليوم، ومع تطور الوسائط الرقمية، يواجه المسرح تحديًا وجوديًا: كيف يحافظ على حضوره الحيّ في زمن الصورة السريعة؟ في المقابل، يملك جيل جديد من المسرحيين العراقيين طاقة ورؤية، معتمدين على ورش العمل والمبادرات الشبابية، وعلى منصات التواصل كأداة للترويج والتفاعل.

المسرح العراقي، مثل سينماه، هو مرآة مجتمع لم يتوقف عن التقلّب. وبقدر ما تعرّض للخذلان والتهميش، بقدر ما عاد للظهور في كل مرحلة مفصلية من تاريخ البلاد. إنه الفن الذي يتنفس من الجمهور، ويصنع من الخشبة فضاءً لحوار يتجاوز الكلمات.

في ظل التحولات السياسية والاقتصادية الراهنة، تبدو الحاجة ماسّة إلى دعم مؤسسي حقيقي يعيد للمسرح مكانته. فالإبداع لا ينمو في الفراغ، ولا يستمر بالبطولة الفردية فقط. المطلوب اليوم هو تكامل الجهود، من الدولة والمجتمع معًا، لتثبيت البنية التحتية وتعزيز التكوين الأكاديمي، وفتح النوافذ أمام التبادل الثقافي الدولي.

وربما يكمن جوهر المسرح العراقي في تلك القدرة العجيبة على النهوض بعد كل سقوط. فهو لا ينتظر الظروف المثالية، بل يصنعها بأدوات بسيطة وروح عظيمة. وبينما تتأرجح أولويات المؤسسات بين السياسة والاقتصاد، يظل المسرح ينحت مجده من صبر فنانيه وإيمانهم برسالته. الشباب اليوم لا يبحثون فقط عن جمهور، بل عن معنى، عن حوار، عن منصة تقول ما لا يُقال. ومع كل عمل جديد، يولد أمل بأن الخشبة قادرة على خلق وعي جماعي، وأن العراق، بالرغم من ما مرّ به، لا يزال وطنًا ينبض بالفن، ويستحق مسرحًا يليق بروحه وتاريخه.

المسرح العراقي لم يكن يومًا مجرد فن ترفيهي، بل ظل دومًا أداة وعي، وصوتًا لحقيقة غالبًا ما تُخنق في زحام الخطابات الرسمية. في خضم العتمة، تبقى الخشبة مساحة للضوء، وما دام هناك من يقف ليحكي، سيبقى المسرح حيًّا، يروي قصة وطن يتغير… ولا يستسلم.